العوامل المؤثرة في تكوين شخصية السيد النبهان قدس سره :
لكل شخصية خصائصها الفكرية واختياراتها السلوكية وقيمها الذاتية ، وهذه الخصائص تكون معالم الشخصية وتصوغ ملامحها العامة ، وهذه الخصائص هي وليد مكونات ذاتية وتربوية وعوامل اجتماعية ، فإذا أردنا استكشاف طبيعة الشخصية فلابد من دراسة المكونات المؤثرة في السلوك البشري .
وأهم العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الشيخ رحمه الله ما يلي :
العامل الأول : الاستعداد الفطري :
وهذا العامل هو الأهم في تكوين الشخصية وهو أمر لا يمكن إنكاره في التكوين وكما تخلق الأجسام مختلفة في ملامحها كالطول والقصر والنحافة والبدانية والجمال والقبح وملامح الوجه والجممد فإن النفوس تخلق مختلفة في استعداداتها ، فالخلق (بفتح الخاء) يختلف عن الخلق (بضم الخاء) ، فالخلق يرتبط بأشكال الجسم ولا يقبل التغيير ، فالطويل لا يكون قصيراً والقصير لا يكون طويلاً ، والقبيح لا يكون جميلاً ، وبخلافه الخلق المرتبط بالنفس فيقبل التغيير والتبديل ، فالبخيل يمكن أن يصبح كريمأ بالتأديب والتعويد ، والجبان قد يصبح شجاعأ بالتربية والتأهيل وبعض الأفراد تستقيم طبائعهم بالجود الإلهي الذي يخص الله به بعض خلقه فتكون النفس مهيأة بحسب استعدادها للكمال ، كمن خلقه الله على حالة من الكمال الخلقي ، بحيث يكون هواه منذ البداية متجها للاستقامة ، فلا يحب ما يتنافى مع الكمال ، وهذا هو الاستعداد الفطري المرتبط بنقاء الفطرة الأصلية التي يخلقها الله صافية محبة للاستقامة نفورة من الرذائل المستقبحة ، ثم يتجه المزاج الفطري بحب المؤثرات الموجهة له ، نحو الاعتدال أو نحو التطرف ، فيعتاد الإنسان ما ترسخ لديه من خلال المحيط التربوي الذي يوجهه ويحدد له قيمه السلوكية .
والنفوس بحسب فطرتها مهيأة لاختيار سلوك الخير أو لاختيار سلوك الشر ، ثم يترجح الاختيار بالأثر التربوي والاجتماعي .
ومن المؤكد أن الشيخ منذ طفولته الأولى كان يملك قابليات فطرية وذاتية ترجح لديه سلوكيات الاستقامة والالتزام بالقيم الدينية السليمة ، وهذا ما تشهد عليه سلوكيات طفولته وما كان يشعر به في أعماق ذاته من نفور من مجالس اللهو المعتادة لدى الشباب بتأثير الغرائز ، وقد دفعه هذا إلى التهرب من أصدقائه والبحث عن عالم يأنس به ويطمئن فيه وقد شرح الإمام الغزالي ظاهرة الاستقامة في السلوك بأن ذلك يكون بأحد أمرين بالجود الالهي الذي يجعل النفس تنقاد للحق والأخذ بأسباب الفضائل
وأما بالمجاهدات والرياضات النقية عن طريق حمل النفس على التخلق بالفضائل بقدر من التكلف في البداية إلى أن تتمكن في النفس .
إن مرحلة الحيرة والتردد التي سيطرت عليه في بداية شبابه هي نتيجة ذلك الصراع الداخلي بين محيطه الاجتماعي واستعداداته الفطرية فالمحيط يطوقه بمغريات الشباب والمال والملذات . واستعداده ومزاجه يدفعانه نحو عالم جديد لا يعرفه وكان يبحث عنه ، ولكن لا يدري أين طريقه ووجهته .
العامل الثاني : الرياضات النفسية والمجاهد ات :
وهذه الرياضات والمجاهدات التي رافقت رحلة الشيخ في المرحلة الأولى من حياته الروحية بدأت بعد أن اختار طريق التربية الصوفية واعتزل الناس لكي لا يشغل قلبه بقضاياهم ولا يضطر لمداراتهم ثم تعقبها الخلوة التي يشعر فيها بالإنس في خلوته وكان يأكل القليل من الطعام ويسهر الليل بالعبادة والأذكار وقراءة القران ، والغاية من كل ذلك إخماد القوة الغريزية والتحكم فيها واخضاعها لحكم الشرع ، ويلتزم في هذه المرحلة بحفظ آداب الشريعة والابتعاد عن مواطن الحرام ودرء الشبهات وحفظ الحواس من سماع ما يشغل القلب أو يعكر صفاءه ومحاسبة النفس على كل ما يصدر عنها من أفعال ، والتحكم في خواطر القلب لكيلا تأتيه الخواطر المذمومة ، وأن يلتزم بعهده مع الله تعالى في أداء حقوق الله .
وكان الشيخ طيب الله ثراه يتحدث كثيراً عن هذه المرحلة من حياته والتي دامت عدة سنوات ، وقد قضاها في ذلك الجامع المنعزل الهادىء البعيد عن الناس في الكلتا وية ، وكان رفيقه في مجاهداته النفسية رفيقه الدكتور معروف الدواليبي الذي كان يشاركه حياة التقشف والمجاهدة قبل أن يسافر إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا .
وغاية الرياضة النفسية تحقيق طهارة القلب وتهذيب طبائع النفس والتغلب على قسوة القلوب بسبب ما تراكم عليها من حجب ، فالشهوات المسيطرة على الحواس تحجب النفوس عن التزام الفضائل وكلما سيطرت الرذائل تقلصت الفضائل ، وكلما التزمت النفس بالفضائل تراجعت الرذائل لأن الرذائل هي الأضداد الطبيعية للفضائل ، والرذائل موجودة في الحيوانات وهي أقوى فيها من الإنسان ، وما يميز الإنسان عن الحيوان هو التزامه بالفضائل ، ولا يمكن إخماد القوى الشهوانية في النفس كالرغبة في الأكل والشرب والجنس ولكن يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها واخماد تمردها وتتمثل الفضيلة في القوة الشهوانية في العفة والعفة تولد حسن المعاملة والألفة والصداقة والنزاهة وحب الخير للناس وعبر الأصفهاني في كتابه الذريعة في مجال حديثه عن أهمية المجاهدة النفسية أن خلافة الله تعالى في الأرض وعمارته لها لا يصلح لها إلا من كان طاهر النفس ، ومن لم يكن طاهر النفس فلا يصلح لمهمة العمارة المرتبطة بالخلافة.
وطهارة النفس لا تتحقق إلا بإصلاح القوى الثلاث للانسان وهي القوة الفكرية ويميز بها بين الحق والباطل في الاعتقاد وبين الصدق والكذب في المقال ، والقوة الشهوانية وتصلح بها غرائز الانسان وتطلعه للملذات فيتمكن من التحكم بها ، أما القوة الثا لثة وهي الغضبية ويؤدي إصلاحها والتحكم بها إلى الحلم والتحكم في سلوكيات الغضب والحمية ، فلا يغضب إلا لله تعالى .
وكان الشيخ يرى في المجاهدة خيراً ويدعو إلى مجاهدة النفس ، ولا يجيز للداعية أن يتصدى للعمل الدعوي إلا بعد طهارة النفس بالمجاهدات ، لكي تصل كلمته إلى القلوب صافية نقية ، ويكون نصحه لله ، ولا مجال لحظ النفس فيما ينصح به الناس ، فا لنفوس إذا تقابلت تصادمت ، أما من جاهد نفسه فإنه يتحكم في غرائزه ، فلا تبرز نزعته إلى الجاه والرياسة ، ولا يتعالى على الناس بسبب استقامته فيشعرهم بالمذلة والمهانة .
ولا شك أن تلك المجاهدات النفسية أسهمت في صقل شخصية الشيخ وهذبت طبائعه وطهرت قلبه من أمراض القلوب ، وأهمها التحاسد والأطماع والأحقاد ، واستبدلت ذلك بصفات تميز بها واشتهرت شخصيته الذاتية بها وأهمها الألفة والتواضع والشكر والقناعة والزهد والأدب مع الله ومع الناس . وحدد الإمام الغزالي غاية المجاهدة بما يلي : أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره ، ولا يخلوعن غيره إلا بطول المجاهدة ، فإذا حصل قلبه مع الله تعالى انكشف له جلال الحضرة الربانية وتجلى له الحق ، وظهر له من لطائف الله تعالى ما لا يجوز أن يوصف بل لا يحيط به الوصف أصلاً.
العامل الثالث : البيئة الاجتماعية :
ويشمل هذا العامل المحيط الاجتماعي الذي عاشه الشيخ في طفولته وشبابه الأول في المدينة والريف ، وتأثير القيم السائدة عليه وهذه القيم ترسخ في النفس من خلال تأثير البيئة على الفرد ويتميز مجتمع الريف بخصائص معينة وقد تحدث ابن خلدون في مقدمته عن البداوة والحضارة وخصائص كل منهما في تكوين الإنسان واشاد بخصائص البداوة في مجالات الأخلاق والقيم وبخاصة فيما يتعلق بالسخاء، والشجاعة والوفاء، ، واعتبر البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر ، وسبب ذلك أن أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملذات وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر ، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم ، فتجد الكثير منهم يقذ عون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبر ائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة ، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولأ وعملاً ) .
وكان الشيخ رحمه الله بالرغم من حياته في المدينة فقد كان الحي الذي عاش فيه في طفولته أقرب في قيمه وتقاليده وأخلاقه إلى حياة الريف ، من حيث تماسك أسره من خلال انتماءات عشائرية واضحة وتقاليد مسيطرة في المدافعة والمغالبة والحمية وطبائع البأس والاعتزاز بقيم الشجاعة والكرم والشرف ، ومدينة حلب ما زالت محتفظة بقيمها الأخلاقية العالية ، وبخاصة فيما يتعلق بقيم الشرف والمروءة والتماسك الأسري والاعتزاز بالفضائل .
ومن المؤكد أن الشيخ قد تأثر بهذه القيم ، وكانت واضحة في سلوكه وآرائه ومواقفه وكان يعتز بها ويدعو إلى التمسك بقيم الشجاعة والمروءة والشرف والفضيلة والترفع عن الصغائر والوفاء والتراحم ، وفي الوقت ذاته كان يدين القيم الخاطئة المتمثلة في العصبية والحمية وعادات الثأر وسلوكيات العنف والتناصر القبلي وتجاهل الحقوق الإنسانية للمرأة وأكل أموال الأيتام والضعفاء بالباطل ، والقسوة في العلاقات الإنسانية والتنابذ بالألقاب واستعمال الألفاظ غير اللائقة في الخصومات والمشاحنات .
وكان يمدح قيم الريف الأخلاقية ويشيد بترفع أهل الريف في مواطن المخاصمات ، وكان ينكر قيم أهل الحضر وسكان المدن الذين تسيطر عليهم الأنانية ، فيغلقون أبوابهم في وجه الفقراء والمستضعفين ، ولا يتزاورون في الأتراح ، ولا يحمل القوي منهم الضعيف ، ولا يفتح الغني بيته للمحتاجين ، ويتجاهلون حقوق ذوي الأرحام عليهم ، ولا يبرون آباءهم وأمهاتهم .
ومن أوضح آثار هذه القيم على سلوكه وفكره اعتزازه الكبير بقيم الشرف والغيرة على سمعة المرأة ، والحرص على تربيتها ، وعدم التساهل في أي أمر يمس الشرف والمروءة ، والمرأة في نظره يجب أن تظل نقية السمعة طاهرة السلوك ، لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ولا تخالط الرجال ، ولا تقترب من مجالسهم وأن تكون في أعلى درجات الحشمة في ملابسها وفي سلوكها وفي نبرات صوتها ، ويضيق بأي تساهل في هذا الأمر ، ويغضب لذلك أشد الغضب .
وفي الوقت نفسه كان يحب صفة الرجولة في الرجال ، ويضيق بالرجال الذين لا يعتزون برجولتهم ، ويرى أن الفروسية هي رجولة ومروءة وقيم عالية ، وكان يحب ركوب الخيول الأصيلة ويقتني بعضها ، ويتحدث في مجالسه عن أخلاق الفرسان ، ويشبه الرجل بالفارس والمرأة بالفرس الأصيل التي تعجب بالفارس الذي يحسن ترويضها والإمساك بمقودها ، فإذا فشل في ترويضها رمته أرضاً وتخطته بحثاً عن فارس متمكن يرضي كبريائها
ومن الواضح أن العوامل المؤثرة في تكوين شخصيته سواء منها ما كان ناتجاً عن تكوينه الذاتي أو مجاهداته النفسية أو القيم الأخلاقية التي ورثها من بيئته الخارجية قد أسسهت بقدر متفاوت في تكوين ملامح شخصيته ، والاستعدادات الذاتية هي الركيزة الأهم في هذه المعادلة لأنها الأساس التي يقوم عليها البناء كله ، وهو تطلعه الذاتي للكمالات وحبه للفضائل وتعلقه بقيم أخلاقية عالية ، وكثيراً ما كان يردد في مجالسه العبارات التي تؤكد هذا التعلق بالمعالي ويقول ذلك البيت الشهير:
ومنذ كنت طفلاً فالمعالي تطلبي *وتأنف نفسي كل ماهو واضع
ولي همة كانت وها هي لم تزل *على أن لي فوق الطباق صوامع
ولم تكن المعالي التي يتطلع إليها هي المكانة الاجتماعية أو الطموح المالي أو الجاه أو الزعامة ، فقد كان واضح الزهد في هذه المعاني ، وانما يقصد المعالي التي تجسد الكمال الإنساني . والراغب الأصفهاني على حق في حديثه عن الفضائل الإنسانية ، وأن جميع الفضائل على ضربين ، نظري وعملي وكل ضرب منهما يحصل على وجهين :
أحدهما :عن طريق التعلم ويحتاج فيه إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة بدرجة ، وإن كان بعض الناس يكفيه أدنى درجة ومنهم من يحتاج إلى زيادة ممارسة وذلك بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة .
وثانيهما : يحصل بفضل إلهي كمن يولد وهو صادق اللهجة وسخياً وجريئاً وآخر على عكس ذلك ، وقد يكون بالتعلم والعادة .
وهذا المعنى نفسه ذكره الإمام الغزالي في بحثه عن حسن الخلق ، وأن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة والى اعتدال قوة الغضب والشهوة وكونها للعقل مطيعة وللشرح أيضأ ، وهذا الاعتدال يحصل على وجهين : أحدهما : بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفي سلطان الشهوة والغضب .
والوجه الثاني : اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة واعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب .
انتهى من كتاب الشيخ محمد النبهان للدكتور محمد فاروق النبهان