الانتقال إلى طلب العلم :
عندما ضاق الأمر بوالده ( أحمد) وسدت أمامه أبواب الأمل ولم يستطع أن يكون ولده معه بالتجارة كما يريد ، أمسك بيد ولده الشاب وقاده برفق إلى غرفة منعزلة ، وخاطبه بكل العواطف التي يملكها الأب نحو ابنه الأكبر ، وبكل الحب الذي بدأت ملامحه في كلماته الهادئة الرصينة ، وسأله عما يريده ويبحث عنه .انهمرت دمعة سخية من عيني الشاب ، وقال لوالده بكل رفق وأدب : مما يؤلمني يا والدي ويحزنني أنني لم أحقق لك ما كنت تتطلع إليه وتنتظره مني ، لقد حرصت بكل طاقتي على أن أكون الابن البار لك الذي يسعدك بعمله معك ، ولكن لا أقدر على ذلك ، ولا أشعر بكياني وذاتي في هذا الطريق ، وأبحث عن طريق آخر قد أجد صفاء قلبي فيه ، وقد شرح الله صدري للتفرغ لعبادته وسلوك الطريق إليه تعالى لمعرفته ومصاحبة الصالحين ممن تنفعني محبتهم وتقودني مجالستهم إلى شهود منة الله علي بما أكرمني به من نعمه وفضله .
وأخذ محمد يحدث والده عما يشعر به في أعماقه من فضل الله عليه ، وأنه يريد أن يسلك
طريقه إلى الله بالعلم والطاعة وطهارة القلب من التعلق بمظاهر الدنيا .
فاضت عينا الأب بالدموع ، وأمسك برأس ولده برفق وضمه إلى صدره وقال له : ألا تريد يا ولدي أن نحتكم إلى عالم كبير من علماء الشريعة ومن فقهاء الدين ، لعله يدلنا على الطريق الذي يرضيك ويرضيني . وذهبا معاً إلى علامة مدينة حلب وشيخها الكبير المعروف بعلمه وورعه الشيخ نجيب سراج الدين ، وشرح الأب للشيخ الطريق الذي اختاره ابنه وتوجه الشيخ إلى (محمد) ونصحه بأن يقسم وقته بين العلم والعمل ، وبذلك يحقق رغبته بطلب العلم ويلبي رغبة والده بالعمل معه في تجارته .
أطرق الشاب رأسه أدباً وحياء من الشيخ وأجابه بأن العلم الذي اختار طريقه يحتاج منه إلى أن يتفرغ قلبه له ، ولا يمكن لقلبه الذي أحب العلم وتعلق به أن يجتمع فيه حب آخر للعمل ، ولابد من التفرغ لطلب العلم .
قال t : (قال لي الشيخ نجيب رحمه الله: يا ابني، إرضاء والدك فرض والعلم فرض، احضر للعلم كل يوم ساعة.. قلت : لا تكفيني! قال: اجعل النهار نصفين بين العلم والتجارة ، قلت : جَبَسَتان لا تحملان في كف، وإني أريد العلم .وحين أدرك الشيخ صدقَ إرادتي قال: أودُّ أن أعلمك علماً ، قلت: تفضّل . قال: قل كل يوم: اللهمّ ارزقني العلم النافع. ثلاث مرات، يَرضَ والدُك، ويُفتَحُ عليك فتوح العارفين .قلت: على راسي، هذه أتمكن منها!!
ثمّ أرسلت صاحبي إلى مفتي حلب آنذاك الشيخ أحمد الكردي رحمه الله فسأله لأجلي وجعل السؤال عن نفسه، فقال: والدي غنيّ، أمّي لا يقرأ ولا يكتب، وأنا أكبر أولاده، وأشتغل بتجارته، وأرغب في طلب العلم، لكنه لا يرضى! فقال له: اطلب العلم رضي أبوك أو لم يرضَ... فوجدته أشجع الشجعان).
تُذكِّرُنا حالته بسيّدنا إبراهيم بن أدهم وما كان عليه من إمارة وغنى ودلال، وحب للخيل والصيد والتجوال، فسمع هاتفاً (وهو على جواده يقول له)يا إبراهيم ما خُلِقتَ لهذا . ثلاثاً..! فنـزل عن جواده، وتعرّف على راعٍ فبادله الثياب، وتبرأ مما كان عليه وهام.
وكذلك فعل سيّدنا النّبهان رضي الله عنه إذ تبرأ من التجارة والإمارة، مخلفاً الدنيا والاشتغال بالأدنى ومجالس باب النيرب وراء الوراء، متوجها بهمته إلى الله عازماً على طلب العلم.. دون تأثر بصاحب أو جليس أو أمر من قريب أو غريب، وتلك مناسبة بينه وبين سيّدنا إبراهيم بن أدهم أشار إليها رضي الله عنه قائلاً:( الشيخ إبراهيم بن أدهم وجواده، أنا محمّد بن أحمد النّبهان جرت معي، هذه اسمها عناية، قبل أن أدخل العلم بشيء قليل، قبل أن أدخل العلم بأشهر
في المدرسة القرناصية

في سنة 1340 هـ 1922م دخل t القرناصية الشرعية المجاورة لجامع الإسماعيلية بحلب، ومع أوّل قدم وضعه في طلب العلم باشر وصيّة شيخه وواظب عليها، وجعل همَّه العلم الذي يوصل إلى المعلوم سبحانه، لا العلم الذي تبتغى به الشهادة والجاه والمعاش، قال t : (أنا دخلت العلم للعلم، ولأنّ الله تعالى أمر بطلب العلم، من طلب العلم ليتعيّش به لا عيـّشـه الله تعالى) , قال عليـه الصلاة والسلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم وضمّ إلى هذا المبدأ السامي غاية الأدب والحياء، مع كونه جادّاً حازماً متفائلاً، لا يطرق الكسل جنبه ولا يجنح للجدل والهزل والفضول لسانه، ولا يقلُّ نظره في كتبه عن ست ساعات يومياً زيادةً على ما يلقى عليه في المدرسة .ووالده الذي فقد المعول عليه في الكسب والعمل حين رأى ما رأى من صدق ولده وإقباله بكليته على الله ورسوله تركه لله تعالى ولم يلزمه بشيء مذ دخل المدرسة الشرعية، وهذه حالة قلّما يلتفت إليهـا آباء طلبـة العلم.
وبعد أن أمضى في القرناصية سنةً حمله الشوق إلى الحجاز لزيارة حضرة سيّد الخلق محمّد r وأداء فريضة الحج فجاء يخبر أباه، فقال الوالد: بلغني.. ولكن متى سيكون السفر؟ قال t : ( صباح الغد ) . قال: أفّ! ولِمَ لمْ تخبرني من قبل؟ قال t : ( لأنّك ستمنعني، وتقول: لا زلت شاباً ) وكان t إذا عزم على أمر فيه مرضاة الله تعالى لا يتراجع، لأجل ذلك يقول له والده: أنت كردي! فتحقق له ما أراد وحجّ على الإبل حجّـته الأولى سنة 1341هـ 1923م .
في الخسروية الشرعية (الكلية الشرعية)

وبعد عودته رضي الله عنه من الحجاز سنة 1342 هـ 1923م انتقل من القرناصية وألقى رحله في الخسروية الشرعية، ومدرسوها آنذاك كبار علماء حلب.
ودخل المدرسة مرة فوجدهم في حلقة يذكرون فيها ويبكون، فسألهم:لماذا تبكون؟ قالوا: نبكي محبين.. قال t : (والله هذا شيء جميل، علّموني هذا الحب)!! فذكر له ديوان ابن الفارض رحمه الله قال t (فقرأته فلم أجد فيه ما يقولون، وعلمت أن هذا ليس طريق الحب، وما أدركت الحب إلاّ عن طريق الاتباع لسيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام) .
نظرة عن مرحلة الخسروية :

وفي هذه المدرسة انضم (محمد) إلى أسرة جديدة لم يكن يعلم من أمرها شيئاً من قبل ، فلم يكن في أسرته علماء من قبل ، وكان الأطفال في المدينة يدرسون مبادىء القراءة والكتابة في الكتاتيب القرانية التي كانت ملحقة بالمساجد ، ويتعلم فيها الطفل قراءة القرآن مع أقرانه وأبناء حيه ، يجتمعون في قاعة واحدة ، ويجلس المعلم في موقع مرتفع يشرف عليهم ويعلمهم القرآن ومبادىء الكتابة والإملاء وقواعد الحساب ، وقلما كان يتجاوز ذلك ، ويتلقى أجره من تلاميذه كل يوم خميس ، وكانت هذه الكتاتيــب موزعة في معظم الأحياء وتحل مكان المدرسة ، ولم تكن هناك مدارس في تلك الفترة التاريخية ، مما أدى إلى شيوع الأمية في المجتمع ، وبخاصة بالنسبة للبنات
وكانت لفظة (الشيخ ) تعني معلم القرآن للأولاد و(الخوجة ) معلمة القرآن للبنات ، فإذا ختم الطفل القرآن أقيمت له حفلة تكريم واسعة ، ورافقه زملاؤه إلى داره بكل مظاهر الفرحة فتفرح الأسرة بطفلها الذي ختم القرآن ، وغالباً ما كان التعليم يتوقف بعد ذلك .
أما من يختار طريق العلم فعليه أن يلتحق بالمدرسة الخسروية ، فهناك علماء كبار وفقهاء مشهود لهم بالرواية والدراية وهم شيوخ ، ولكنهم ليسوا كشيوخ الكتاتيب القرآنية التي كان يقوم بها إمام المسجد والذي لا يتجاوز علمه القليل من الأحكام .
والخسروية هي أزهر حلب ، فمن تخرج منها فهو عالم يحتج بعلمه ، فإذا ذهب إلى الأزهر بعد ذلك فقد أصبح من علماء الأمة وتفخر أسرته به ، وتفرح بما يضفيه على أهله من مهابة واحترام
لم يكن (محمد) عندما التحق بالخسروية يطمح بما يطمح به نظيره من وظيفة في الأوقاف يسد بها حاجته للمال فقد كان المال متوفراً لديه ولم يكن يطمع في مكانة اجتماعية فقد كان طريقه معبداً لتحقيق هذه الغاية عن طريق أسرته وعشيرته ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل والده وأسرته لا يشجعون اختياره لطريق العلم ، ويتساءلون فيما بينهم عن سر اختياره للعلم فلا يجدون جوابًا سوى ما وجدوه في ولدهم من تعلق بالعلم لا حدود له .
كان العالم في مدينة حلب يحظى بمكانة كبيرة من الاحترام وبخاصة إذا ارتبط العلم بالعمل ، وتميز سلوكه بالنزاهة والورع والتقوى إلا أن معظم الأسر الثرية وذات المكانة الاجتماعية لا تشجع أبناءها على طلب العلم الشرعي ، وقد تشجعه على الالتحاق بالدراسة العلمية كالطب والهندسة والقانون ، لأن هذا العلم يأتي بالمال ، ويقود صاحبه إلى مناصب عليا في الدولة ، أما العلم الشرعي فلا يحقق الهدف الدنيوي ، ولا يؤمل صاحبه لحياة مرفهة ، وهذه ظاهرة كانت في الماضي واستمرت فيما بعد ، وما زال الناس يبحثون عن الشهادات التي تؤهل صاحبها للكسب المادي والترقي في وظائف الدولة .
وكانت المدرسة الخسروية من أقدم المدارس العلمية ، ولم تكن هناك معاهد أو جامعات ، ومن أراد العلم فهذا هو طريق العلم وهذه هي بوابته الأولى المعترف بها والمشهود بقيمتها .
وتجدر الإشارة إلى أن هناك مدارس أقل قيمة وهي مدارس كثيرة ، وغالباً ما يلتحق بها أبناء الريف الذين يبحثون عن العلم ، وتضم غرفاً خاصة للإقامة ، وهناك أوقاف ينفق منها على هذه المدارس ، وتعقد فيها مجالس للعلم ، يقوم بها علماء متطوعون ، يقرؤ ون فيها كتب التفسير والحديث والفقه والأصول ، وهذه المدارس لا يعترف بها ولا بقيمة شهادتها ، إذ لم تكن الدراسة فيها منتظمة .
حظي الشيخ محمد بمكانة متميزة بين أفراد أسرته وعشيرته ، وأخذ والده يعامله باحترام وتقدير ، لا بسبب ما التزم به من ملابس العلماء ، وانما بسبب ما اشتهر به بين أسرته وأصدقائه من استقامة في السلوك ونزاهة في المواقف وصدق في الأقوال وترفع عن الأطماع وزهد فيما يطمع فيه غيره وهو بالإضافة إلى هذه الأخلاق كان محبباً إلى النفس بسبب نقاء قلبه وطهارة نفسه وإيمانه بربه والإلتزام بطاعته في كل ما أمر به ونهى عنه والتطلع إلى الفضائل والكمالات والتحلي بالخلق الحسن .
أعجب أساتذته في المدرسة الخسروية بخلقه الرفيع وتمسكه بالقيم الانسانية العالية ، ورأوا فيه نجابة ذهنية وصفاء نفسياً واستقامة سلوكية ، وأخذوا يقربونه منهم ويتحاورون معه ، فيزدادون به إعجاباً وتقديراً .
كان بعيداً عن اللغو في الكلام والجدل العقيم ، وكانت له خصال مثيرة للاهتمام ، وأهمها أنه يتحدث بلغة غير مألوفة لدى زملائه من الطلاب ، فــلا يشاركـهم في همومهم المعتادة ، ولا يتخاصم مع أحد منهم ، فإذا أساء إليه أحدهم بكلمة أو نقد أعرض عنه ، واذا وجد أحدهم في ضائقة أو شدة وقف معه بصدق وأخذ بيده .
كان مشهوراً بعفة اللسان فلا يجري على لسانه ما يجري على لسان أمثاله من سباب وشتيمة وكان بعيداً عن الحقد الذي لا يعرف له مكاناً في قلبه ، وبعيداً عن الطمع فلا مكان في قلبه لمال أو جاه مما يشغل سواه .
في الأزهر الشريف:

دخل t الأزهر الشريف بالرقم : 678 /ش/محمّد أحمد نبهان، حلب /سوريا، تاريخ الانتساب 7/رجب/1346 هـ الموافق : 31/12/1927 م، وترك الأزهر في 22/ربيع الثاني/1347 هـ الموافق : 6/10/1928 م
وبعد أن أمضى سبع سنوات بين القرناصية والخسروية فاز في جميعها بالأولية، غادر إلى مصر سنة 1346 هـ . وفي الأزهر الشريف حرص t ألاّ يأخذ العلم من غير أهله، ونعني بهم المتقين المحبين لأهل الله أما غير هؤلاء فلا يأخذ عنهم، فمع ما كان عليه الأزهر من مكانة عالية، وشهرة علمية سامية، تمدّ جسورها وتنشر نورها على أرجاء المعمورة، فإنّ بعض من يتصدّر حلقات العلم والتدريس لم يكن بمستوىً يُحْمَد، وحين يلحظ الطالب الغيور حالة كهذه يجد نفسه مضطرّاً لتقويمها بالممكن، أو يلجأ إلى ترك حلقة ذلك الشيخ .
وكانت له دروس عند واحد لا يمنع من حلقته بادياً أو حاضراً، ولا يبالي بإعادة الدرس وصقله يظهر التأثر والحرص، ويكرر العبارات والشَّرح، ويضيف كلمات: الحاصل، المقصد، يا سيّدنا الشيخ، فيضيع الوقت سدىً! فلم يصطبر على التفريط والإضاعة بل عارض الشيخ وحاسبه مع كونه تلميذاً عنده! قال t قلت له: (الحاصل، المقصد، يا سيّدنا الشيخ! ما هو حاصلك أنت؟ وما هي نتيجتك؟ أين المحاسبة يا سيّدنا الشيخ، وما هو حاصلك مع الحضرة الإلهية؟ وما هي الثمرة؟ فلم يجبه بحرف)!.
ومرّة أخرى لحظ شيخا في الأزهر يقدح بالشيخ محيي الدين بن عربي فماذا يفعل من يحسن الظن بعامة الناس فضلاً عن خاصتهم؟ فعاجله بردٍّ مناسب، ولم يجد ذلك الشيخ ما يعتذر به إلا أن قال: يا شيخ محمّد، إن المجتهد إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وإنني أخطأت فأرجو المعذرة!!
ورافق طيلة بقائه بمصر الشيخ نجم الدين بن الشيخ محمّد أمين الكردي الأربلي شيخ الطريقة النقشبندية هناك، وأمضى t سنة في حلقات الشيخ محمّد بخيت المطيعي شيخ الأزهر آنذاك والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ سلامة العزّامي، والعزّامي والدجوي أحب شيوخه إلى قلبه وأكثر من أخذ عنهم واستفاد، ثمّ رجع t إلى حلب، واستقرّ في جامع الكلتاوية سنة 1347 هـ الموافق : 1929 م .أمضى منها سنتين في جامع الإسماعيلية
ولكن يا ترى: هل شبع من طلب العلم؟ قال رسول الله r منهومان لا يشبعان صاحب علم وصاحب دنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد من رضا الرحمن ثمّ قرأ: } إنما يخشى الله من عباده العلماء { [فاطر28] وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان ثمّ قرأ: } إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى { [العلق 6 ـ 7] ، فطالب العلم لا يرتوي مهما نهل، أو كلما ازداد علماً ازداد شغفاً إلى مزيد، فما أن وطئت قدماه t أرض حلب حتى بادر إلى حلقة شيخه من قبل الشيخ أسعد العبجي رحمه الله، والعبجي وما أدراك ما العبجي! لا في علمي الفقه وأصوله مدار اختصاصه فحسب بل في العلوم الشرعية والعربية بجملتها. فلازمه وقرأ عليه فترة طويلة، حتى استوفى ما يحتاج إليه من علوم عقلية ونقلية مع كونه لم يترك المطالعة والمراجعة، وأجازه شيخه بكل ما أخذ عنه واستفاد، وكان يقول عن تلميذه: هو حجة في الفقه الشافعي . .
وشغل الإمامة لعامين في جامع الإسماعيلية المجاور لقلعة حلب، سنة 1937م وكالةً عن صاحبه الشيخ عبدالله سلطان فترة غيابه في الأزهر، ولم يخطب طيلة حياته إلاّ مرّات لم تتجاوز عدد الأصابع، تميّزت بقوّة الحال والانفعال، فضاق المسجد بالمصلين، فجاءه مدير الأوقاف يستميله بحجّة ترميم المسجد، فلم يردّ عليه، وأرسل الوزير مبعوثاً يطالبه أن تكون الخطب على الوجه الـّذي يخدم سياسة الدّولة آنذاك، فقال له: (إنّ رابطتنا بالله ورسوله، وخطبتنا: قال الله تعالى وقال الرسول r .)
وفي جامع الإسماعيلية زاره شيخ الأزهر آنذاك، حدثنا الشيخ عبد المنعم بن الشيخ نجيب سالم الحلبي قال: حدثني والدي رحمه الله تعالى قال : كنت في الصيف اقضي معظم وقتي في جامع الإسماعيلية المجاور لقلعة حلب والى جنب مفتي حلب الشيخ احمد الكردي رحمه الله وإمام الجامع آنذاك الشيخ عبد الله سلطان رحمه الله الذي سافر إلى مصر لإكمال دراسته فتوكل سيّدنا النّبهان رضي الله بمهامه في الإمامة والخطبة دون اجر بل هو يستلم راتبه من الأوقاف ويبعثه له وهو في مصر فجاءني الشيخ محمّد عبد الله الشامي رحمه الله فقال : الإمام الآن هو العارف بالله الشيخ محمّد النّبهان فهل لك أن تتعرف عليه ؟ فقلت لا مانع عندي وبعد أن أدينا صلاة العشاء صعدنا إلى سطح المسجد لنجتمع بالسيّد النّبهان فالتقينا بالشيخ محمّد الخضر حسين شيخ الأزهر عنده وقد قدم من مصر فتكلّم الشيخ الخضر الضيف بكلام عليّ جميل ثمّ تحدث سيّدنا محمّد النّبهان t فأصغى إليه شيخ الأزهر إصغاء عجيبا فنظرت إليه فوجدته قد ذاب في ذلك المجلس بكل ذاته في ذات الشيخ محمّد النّبهان t واستمرت السهرة بنا حتى مطلع الفجر ثمّ سافر الشيخ الخضر إلى مصر وهو مندهش بتلك الشخصية الفذة وبقي كذلك حتى توفي رحمه الله انسه الله.
انتهى من كتاب الدكتور محمد فاروق النبهان ( الشيخ محمد النبهان) وكتاب السيد النبهان تأليف الشيخ هشام الألوسي ( مع تصرف)