النواحي الثقافية والفكرية المستلهمة من وحي الهجرة
مع الأستاذ عبد الفتاح الشيخ
عضو البعثة الأزهرية لدار نهضة العلوم الشرعية
تقديم:
إنه يومٌ تاريخيٌّ جليل، كما كان لغار حراء في تاريخها الاسلامي ذكريات وذكريات ،كذلك كان الأمر من غار ثور ، ينطلق موكب النور ، تحوطه عناية السماء وتمشي الدنيا في ركابه بجلال مهيب.
أيها الإخوة :
لقد وقف التاريخ يومها يتطلّع الى المستقبل ،فإذا هو حافلٌ بالأحداث ، مشرقٌ بالنتائج، فـانهمك يُعّدّ للمستقبل ، وتناسى الماضي ، وكيف لا وقد طال عليه ظلام العصور الأولى ، وطالت وأوحشت صحراء العصور، واضطربت العقول، وعانت الإنسانية
فإذا النور نذيرٌ طالع ، وإذا الفجر مطلٌّ گالحريق
وإذا الأكوان تشدو طرباً ، وإذا الاصنام كلٌّ في طريق
ثم ينحسر الظلام عن سيدنا محمدﷺو صحبه -رضوان الله عليهم- وينحسر الظلام ، وإذا الرجال المسلمون صحابة رسول الله ﷺ يحملون هذه الدعوة على كواهلهم ، أولئكم الرجال الذين صدق الله جلّ وعزّ إذ يقول فيهم:
[لمنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا]
أيها الإخوة :
الأخ الأستاذ عبد الفتاح الشيخ عضو البعثة الأزهرية لدار نهضة العلوم الشرعية يتفضل ويتعقّب لنا قصة الهجرة ليبرز لنا النواحي الثقافية والفكرية المستلهمة من وحي هجرة رسول اللهﷺ فليتفضّل :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وحده لاشريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن سيدنا ومولانا سيدنا محمد رسول اللهﷺ
اللهم صل وسلم وبارك على هذا النبي ، وأيّد ياربنا للحق والخير جميع من دعا بدعوته وتمسك بسنته واتبع شريعته إلى يوم الدين.
أيها الحفل الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حقاً كما قال الأخ أحمد: إن هذا اليوم من أعز أيام الإسلام علينا، نفتتح به والحمد لله عامنا الهجري الجديد ونتوجه إلى الله عز وجل أن يجعله عام عزةٍ ونصرٍ وانتشار وتأييد للإسلام والمسلمين إن شاء الله.
وقد استمعت واستمعتم جميعاً إلى طالبنا النجيب محمد نور الحسن يسرد علينا في إيجاز قصة الهجرة النبوية الشريفة ، وكما سمعتم و سمعت ، أشار في كلمته إلى أن النبي ﷺ عرض على أصحابه من المسلمين المؤمنين الأوائل أن لو توجهوا إلى الحبشة فإنّ بها ملكاً لايظلم عنده أحد. ما السر في هذا ؟
وحديثي كما تقرر لي أن يكون حول فقه الهجرة ، و لذلك سوف أقف عند نقاط من حوادث الهجرة ، وما أكثرها.
و السرّ في هذا أن قريشاً كلها وأن أهل مكة جميعاً ناصبوا النبي ﷺ والمسلمين الأوائل العداء ، وأذاقوهم شتّى ألوان الثبور والهوان والعنف والتعذيب، ومن هنا عرض النبي ﷺ على المسلمين الهجرة إلى الحبشة
وتمّت الهجرة الأولى إلى الحبشة وأعقبتها هجرة ثانية الى الحبشة ،ولكن النبي ﷺ ثبت في ميدان الدعوة ؛لأن الله عز وجلّ لم يأذن له بالهجرة إلى الحبشة أو ألى غيرها في ذلك الوقت، واستمر صمودهﷺ وجهاده بالمنطق اللين، وبالقول الحكيم وبالآية الواضحة ، وبالذكر العظيم ، وبالقرآن الكريم سنوات وسنوات.
ثم جاء عامٌ كما نعلم جميعاً عُرِف في تاريخ الاسلام بعام الحزن ، وكان السبب المباشر لتسميته ﷺ لهذا العام عام الحزن بحسب الظاهر افتقاده للسيدة خديجة -رضي الله عنها وأرضاها- ولعمه أبي طالب، ولم يكن هذا هو السبب الحقيقي لحزن النبيﷺ في السنة العاشرة، وانما كان هذا سبباً ظاهراً ومباشراً ، أما السبب الحقيقي فهو أن النبيﷺ في هذه السنة قضى قرابة العام يدعو إلى الله، ويدعو إلى الايمان بالله دون أن يجد من يستجيب إلى دعوته في تلك السنة، حتى عرض نفسه على القبائل حتى انتقل إلى الطائف مهاجراً بنفسه ولايصحبه في ذلك إلا زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فكانﷺ في تلك السنة گمن يسير في طرق مسدودة، ويطرق أبواباً مغلقة ، وينادي آذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً، وكان ذلك هو السبب الحقيقي والسر الأصيل في حزنه ﷺ ، فكان يسائل نفسه : أوقفت الدعوة عند هذا الحد؟ حتى وصل به الأمر إلى أن كان في موسم الحج فصار ينادي في القبائل : ألا من رجل يحملني إلى قومه ؟ ومن هنا بدأ التفكير الحقيقي في الانتقال بدعوة الاسلام إلى بلدٍ آخر والى جهة أخرى ، وكان اللقاء في منى بنفرٍ قليل من أهل يثرب ،وكما سمعتم في العام الحادي عشر من بعثته ﷺ، كان اللقاء بمجموعة من أهل يثرب فيهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي يروي عنه البخاري رضي الله عنه حديث البيعة الأولى بيعة العقبة الأولى و فيها يقول عبادة رضي الله عنه: قال لنا رسول اللهﷺ :بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ،ولاتسرقوا، ولا تزنوا ،ولا تقتلوا أولادكم، ولاتأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ،ولا تعصوا في معروف على هذه البنود الستة، وعلى القوانين الستة تحت البيعة الأولى، وإذا نظرنا إليها نظرة فقهية سريعة موجزة ، نجد أن هذه البيعة حرصت أشد الحرص على غرس التوحيد والإيمان بالله ورسوله وعدم الإشراك بالله عز وجل في نفوس المؤمنين الأوائل ، ثم حددت لهم معالم الطريق المستقيم بأن قررت مبادئ خُلقية نافعة لهمفي دينهم وفي أخراهم وفي دنياهم وفي مجتمعهم.
ولم تتعرض هذه البيعة لأمر عسكري أو أمر حربي أو أمر من شأنه النصرة أو من شأنه الموالاة إلى أن كانت بيعة العقبة الثانية ، وفي هذه البيعة زاد العدد ، وزاد إلى أن النبيﷺ طلب من الحاضرين أن يختاروا نقباء ، فاختاروا من بينهم اثني عشر نقيباً ، وكان عبادة بن الصامت نقيب بني النجار ، وفي هذه البيعة وجدنا الأمر قد تغير وقد تبدل ، ما طلبه منهم الرسول ﷺ في العام السابق كان الإيمان بالله والتوحيد لله، وأسساً إسلامية طيبة كريمة ترسي دعائم الأخلاق، وتضمن الحياة الآمنة السعيدة بين أبناء هذا الدين ، دين الاسلام، دين الكرامة الانسانية، دين المحبة الالهية التي أوجدها الله في قلوب أبناءه.
أما في هذه المرة: فكانت المبايعة على أن يمنعوه إذا انتقل إليهم في المدينة المنورة مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وعلى أن يكونوا معه في عسرهم وفي يسرهم ، في منشطهم وفي مكرهم ، فبايعوه في ذلك عن حب ورضى وحب وتضحية ؛ لذلك نجد أن السبب المباشر الحقيقي لهجرة النبيﷺ ، كانت تلك البيعة وكان ذلك الاتفاق بين النبيﷺ وبين مجموعات مؤمنة مضحية تبيع نفسها وأموالها وكل ماتملك رخيصة وعن طيب خاطر في سبيل تأييد النبيﷺ وفي سبيل تأييد دعوته.
فالسبب المباشر الحقيقي إذاً الذي فكر النبيﷺ من بعده في تنفيذ الهجرة وفي الانتقال بدعوة الاسلام من مكة إلى المدينة كانت بيعة العقبة الثانية ، والرجال الذين بايعوا النبيﷺ كانوا يتمتعون ببعد نظر عجيب، فربما نظر الواحد منهم إلى عشر سنوات قادمة أو إلى تسع سنوات قادمة ، ذلك أننا نجد أبا الهيثم التيّهان -رضي الله عنه- يُعَقّب على تلك المبايعة فيقول للرسول ﷺ : يارسول الله تعلم مابيننا وبين الرجال والقوم ، وهو يقصد بذلك ( اليهود)، وإن بيننا وبينهم حبالاً وإنّا لقاطعوها ، ولكننا نخشى إذا نصرك الله وكثر من حولك الأتباع والأنصار وأُتيحت لك العودة يوماً إلى مكة أن تتخذها مقراً لك وتتركنا في مواجهة مع هؤلاء القوم ، وأنصت النبيﷺ واستقبل حديث أبي الهيثم بابتسامة گإشراقة الفجر أوأجلّ وأوضح قبل أن يتكلم ثم قال له وأسمع المبايعين: بل الدم بالدم، والهدم الهدم.
هذه الكلمات القصيرة من النبيﷺ تحمل أصدق وأجلّ معنى للمناصرة وللتأييد وللأخوّة الاسلامية ولرابطة الدعوة التي بُعث من أجلها سيدنا محمدﷺ ، والحمد لله لم تمض سنوات بعد الهجرة ، سنوات قلائل ، وقبل أن يصل النبيﷺ إلى مكة إلا وكان قد تخلص من اليهود نهائياً، وقضى على ذلك الخطر الذي يهدد المدينة ويهدد المسلمين من المهاجرين والأنصار صباح مساء، ولحكمة أعدّها الله عز وجل لم تفتح مكة ولم يصل النبيﷺ إلى مكة معتمراً أو فاتحاً إلا بعد أن قضى على العناصر اليهودية كلها في المدينة المنورة وما حول المدينة المنورة ،وبعد ما يقرب من عشر سنوات في يوم حنين حينما أجزل النبيﷺ العطاء لبعض الناس وحرم كبار المهاجرين وحرم معظم الأنصار ، انطلقت شائعة تتردد أن النبيﷺ لم يعط الأنصار من هذه الغنائم الكثيرة الوفيرة لأنه سيقيم بمكة ، فعقد اجتماعاً للأنصار وخطب فيهم واقفاً وقال -صلى الله عليه وسلم- : يا معشر الانصار! يرجع الناس اليوم بالبعير والدينار والشاة وترجعون أنتم برسول الله ﷺ، أرضيتم يامعشر الأنصار ؟ فقالوا: رضينا يارسول الله ، فقال دعاءه الخالد الطاهر: اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار.
كان لكثير من الرجال مواقف على طريق الهجرة ، وكان للنبي ﷺ المواقف الخاصة التي اختص بها هو ﷺ، ذكّرني أخي أحمد في تعليقه حينما قال: انبعث نور الإيمان من غار حراء وانطلق مستقبل الإسلام من غار ثور، اختار النبيﷺ أن يقضي ثلاثة أيام بلياليها في غار ثور حتى تهدأ ثائرة المشركين وحتى يخف الطلب والبحث عنه ﷺ، نفكر قليلاً في فقه هذه النقطة ، لماذا غار ثور؟ لأن الصحابة الذين هاجروا إما خفيةً وإمّا علناً كلهم هاجروا إلى المدينة، ولأن المسلمين قد ملؤوا المدينة، وقريش تعلم علم اليقين أن النبيﷺ مهاجر إلى المدينة المنورة ، وغار ثور في الطريق إلى اليمن ، في الطريق المضاد والمعاكس لطريق المدينة المنورة ، وهذا هو أدقّ أنواع الحيطة والأخذ بمبدأ التخفّي والاستتار؛ لأنه يبعد عن الأفكار أن يتخذ النبيﷺ له مكاناً يطمئن فيه في طريق يؤدي به إلى اليمن ولا يؤدي به إلى المدينة المنورة ، أسلوب الحيطة وأسلوب التخطيط وأسلوب الأمن اتبعه النبيﷺ وخرج خفيةً بالليل، علماً بأن الرجال تصوروا الدار ليقتلوه ويفتكوا به ولكن الله سبحانه وتعالى أعماهم مرتين: أعماهم المرة الأولى عند خروجه من داره ﷺ فلم يروه وخفضت أبصارهم في صدورهم ، وأعماهم المرة الثانية وهم أمام باب غار ثور يحدّث بعضهم بعضاً ويسمع النبيﷺ وأبو بكر رضي الله عنه الحديث ، بحثوا في كل مكان ،و النبيﷺ يحتاط لأمره ، ويخرج خفيةً .
وربّ قائل يقول: أيهاجر عمر رضي الله عنه جهراً ويتحدّى قريشاً ويتحدّى المشركين ويتهدّدهم، ويخرج مهاجراً في وضح النهار، و النبيﷺ وأبو بكر - وأبو بكر أعلى منزلة من سيدنا عمر رضي الله عنه ، يهاجران خفيةً وليلاً ويختفيان في الغار ثلاثة أيام؟
رُبَّ قائلٍ يقول هذا القول ، يسأل هذا السؤال والجواب سهل يسير ، أن هجرة عمر بن الخطاب موضوع شخصي بحت لا يتعدّى حدود شخصيته ، وللشخص الواحد الذي لا يتعدّى قرار حدود شخصيته أن يتخذ من القرارات الشخصية مايراه لنفسه وما يطمئن به وما يعبر به عن شخصيته ، أما شخصية الرسول ﷺ، شخصية التشريع ، و شخصية الدين، شخصية الايمان، فلو ترك الرسول ﷺ الحيطة ، ولو ترك الرسول ﷺ الاختفاء ، ولو ترك الرسول ﷺ الخروج ليلاً متخفياً لكان فرضاً على كل مسلم ومسلمة أن يتخذ القرارات العسكرية والحربية جهرةً نهاراً ، وليس ذلك من الحكمة في كثير من الأحيان.
فهجرة النبيﷺ بهذه الطريقة تشريع واتباع واقتداء ، فلا بد أن يكون على هذا النسق وأن يكون على ذلك المنوال.
ونجد اللمسات التي وضعها النبيﷺ كلها تؤكد موضوع الحيطة وموضوع الأمن ،وموضوع الاختفاء، وموضوع كتمان الأمور.
حينما يدخل على بيت صديقه أبي بكر في وقت القيلولة وتقول عائشة: كان لا يأتينا في مثل هذا الوقت ،وإن كان يأتينا كل يوم في الصباح أو في المساء ، ثم يعلق الباب ويقول يا أبا بكر :من عندك ؟ أخرج من عندك ؟ فيقول: إنما هم أهلي ، حتى أهل أبي بكر رضي الله عنه يريد النبيﷺ أن لايسمعوا القرار ، ويُسرّ لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بقرار الهجرة ويتدارس الدليل ويختار الدليل للطريق عبد الله بن أُريقط وكان مشركاً. وهذا سرٌّ آخر أيضاً.
ربّ قائل يقول: ألا يختار مسلماً؟! ألا يختار رجلاً من المؤمنين ؟ المسلم والمؤمن معروف في ذلك الوقت ، گالقمر ليلة البدر ، لكن عبد الله بن أُريقط وهو مشرك ويسجد للأصنام ويعلم أهل مكة جميعاً أنه مشرك فلايلفت النظر، ولامانع أبداً شرعاً من الاستعانة من الخبرة المتعينة ببعض الكافرين ، لامانع لنا الآن من أن نستعين بمن هم على غير ديننا في التسليح .في الطب ، في الهندسة ، في شتى أنواع العلوم مادام الأمر قد تعين ، وقد استوجب بالنسبة لنا ، ولا مفر لنا منه ، هذه النقطة من النبيﷺ أيضاً نظنها إلى بقائه في غار ثور ، وإن كانت حصلت معجزات، لكنها بعض المعجزات.
أما كان يستطيع النبيﷺ أن يطلب من ربه عزوجل أن يأخذ مكة وقريش كلها سنة من النوم والغفلة فيخرج مهاجراً في وضح النهار إلى المدينة ؟
كان باستطاعته ذلك، ولو رفع يديه لأجابه الله عزوجلّ ، لأن الله عرض عليه ماهو أكثر من ذلك ، عرض عليه أن يرسل له ملك الجبال فيطبق عليهم الأخشبين فيدعها قاعاً صفصفاً لاترى فيها عوجاً ولا امتاً ، فأشار بالسبابة( أن لا) أرجو ان يبعث الله من أصلابهم من يعبد الله.
وقد كان عكرمة بن أبي جهل من كبار الصحابة ومن كبار المؤمنين ، علماً أن أباه كان من ألدّ أعداء الاسلام ، ولا يمكن أبداً أن يعالج النبيﷺ موضوعاً گموضوع الهجرة وخطّة گخطة الهجرة بالمعجزات أو بأن يطلب من الله ؛ ذلك لأن المعجزة إذا أُتيحَت للنبيﷺ فلن تُتاح للمسلمين من بعده ، فگان لا بدّ إلا وأن يسلك الطريق الطبيعي مئة بالمئة ، بل استعمل النبيﷺ عنصر المخابرات وعنصر التجسس بموضوع الهجرة ، فگان عبد الله بن أبي بكر يجلس في مجالس قريش يتسمعّ قراراتهم وأخبارهم وما يتآمرون عليه، بينما عامر بن فهيرة يسير بأغنامه وراء أبي بكر ليخفي خبره ولتصل الأخبار ساعة بساعة وليلة بليلة إلى رسول اللهﷺ، كل هذه النقط تدلنا على أن هجرة النبيﷺ كانت على دراسة عميقة مُحكمة ، وكانت مُحكمة الحلقات ومحكمة التنفيذ خطوة بخطوة وساعة بساعة.
كثير من المواقف الفدائية كانت في يوم الهجرة.
فدائية علي رضي الله عنه ذلك الشاب الذي كان يعلم يتيقن أنه مقول لا محالة ومع ذلك يقبل الفدائية ، وينام مكان الرسول ﷺ؛ ليودع الودائع التي كانت لكثير من أهل مكة لدى النبيﷺ.
فدائية سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، دخوله الغار قبل النبيﷺ ، تَحَسّسه شقوق الغار شقّاً شقّاً ،وثقباً ثقباً، سيره أمام النبيﷺ طوراً وأمامه طوراً آخر ، ويسأل النبيﷺ عن ذلك فيقول: يا رسول الله ﷺ أتخيل الرصد فأنطلق أمامك لأتلقى أول ضربة فأكون فداءك يارسول الله ، وأتخيل وأتذكر الطلب فأسير وراءك لأتلقى أول ضربة في ظهري يا رسول الله.
هذه الفدائية محتاجون إليها في كل وقت ، لامانع أبداً أن يفدي الجندي القائد المخلص ،ولا مانع أبداً أن يفدي التلميذ الشيخ المخلص ، وعلى هذا الأساس ربّى سيدنا محمدﷺ أصحابه وأتباعه والمسلمين الأوائل المهاجرين والأنصار.
هذه الفدائية وصلت إلى أبعد حد يوم أحد حينما أحاطوا بالنبي ﷺ يتلقّون السهام ويتلقّون الحراب و ويتلقّون النبال فداءً لرسول اللهﷺ ، وأيضاً كان من الممكن جداً أن يطلب النبيﷺ من ربه يوم أحد ، ولكنه ﷺ كما لم يطلب ذلك في طريق الهجرة ليكون ذلك تشريعاً للمسلمين في كل وقت وفي كل دين وزمان ، لم يطلب ذلك أيضاً يوم أحد ، وتلقّى الهزيمة وتلقّى الضربات وسالت دماءه وشجّ جبينه وغاصت حلقات المغفر في خده الشريف وكُسِرت رباعيته الشريفة، كل ذلك ليكون في التضحية ودرساً في الجهاد وللإسلام والمسلمين.
معجزات كثيرة حصلت للنبيﷺ على طريق الهجرة إلى أن وصل إلى المدينة المنورة وكل قبيلة وكل جماعة يريدون من النبيﷺ أن ينزل عندهم وهو يقول: دعوها فإنها مأمورة ، إلى أن ناخت عند دار ابي ايوب الأنصاري ، وأقام النبيﷺ في دار أبي أيوب الأنصاري ، وكل شيء لمسه النبيﷺ بأصبعه الشريف كان ملء البركة، وكان ملء الخير، وملء النور ، مما دعا أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وزوجته أن يتلمس المكان الذي أكل منه النبيﷺ ، فيأكلان منه والذي شرب منه سيدنا محمدﷺ فيشربان منه. لماذا؟ تبركاً وتشرّفاً بذات الرسول ﷺ، عن حب وعن إيثار وعن تضحية كان لقاء الأنصار للنبيﷺ.
ربما يقول بعض أعداء الاسلام : إن الهجرة بهذه الطريقة كانت فراراً من مكة إلى المدينة.
لا وألف لا، لم تكن الهجرة فراراً، وإنما كانت الهجرة انتقالاً مرحلياً من مراحل الدعوة ، ماذا بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؟ ماذا بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة بمنطق الآية وبالمنطق الحسن الجميل والقول الليّن؟ لا شيء إلا الانتقال إلى أرض أخرى، وليكون ذلك تشريعاً باقياً إلى يوم الدين للانسان والمسلمين، إذ اضُطهد المسلمون من بلد من البلاد ، فلماذا لا يهاجروا إلى بلد آخر ويتجمعوا ويتّحدوا ويضمّوا الصفوف.
في سنة خمس وستين حصل انقلاب شيوعي في بورما وأُغلقت المساجد وهُدمت المنابر و خرج المسلمون الأعاجم من أهالي بورما يضربون في الأرض إلى أن وصلوا إلينا في قطر ، وكان الحديث الوحيد المتبادل بيننا وبينهم هو القرآن الكريم وهو الأذان وهو أداء الصلوات في المسجد،
على أي شيء يدل هذا ؟
يدل على أن المسلم أخو المسلم وعلى أن مظلّة الاسلام هي المظلة الواسعة التي لا حدود لها في هذه الارض ، والتي تنضوي تحتها جميع المظلات وجميع الجوانب الأخرى ، بقيت الهجرة لتكون تشريعاً لنا في مستقبل أيامنا وحين تشتد الظلمات من حولنا.
إذن كانت الهجرة انتصاراً للإسلام.
كانت الهجرة تجديداً لنشاط الدعوة الاسلامية.
كانت الهجرة انطلاقاً واسعاً گما تنطلق العاصفة من جميع الجوانب ، ولا تأتي إلا من واحد.
هكذا كان انطلاق الاسلام وآثار الهجرة كلكم تعلمونها وكلكم تعرفونها.
يكفي أن الهجرة كانت السبب الحقيقي في انتشار الإسلام وفي إعلاء كلمة الإسلام على ثلاث امبراطوريات بعد ذلك هي امبراطورية الروم التي كانت تحكم بلادنا وبلادكم ،وامبراطورية الفرس ،وامبراطورية الحبشة في الجنوب حتى جاء وقت وقف فيها عقبة بن نافع رضي الله عنه على شاطئ الأطلنطي في أقصى المغرب ،ويقول: والله لو أعلم يا بحر أن وراءك أرضاً غير هذه الأرض لخضتك بجوادي هذا. قبل أن يظهر كولومبس وقبل أن تكتشف امريكا وقبل أن يعرف العالم المتحضّر.
كانت الهجرة فتحاً
وكانت الهجرة نصراً
وستبقى فتحاً ونصراً للإسلام والمسلمين ما دمنا متمسكين بمبادئ المهاجر الأول وبدعوة المهاجر الأول ، وبالسنّة الشريفة للمهاجر الأول سيدنا محمدﷺ.
وختاماً: أتوجه بالشكر لجميع السادة الفضلاء الذين شرّفوا هذا الحفل ، وأتوجّه إلى الله العلي الكريم أن يشملنا بعنايته ورعايته وأن يجعل هذا العام عام نصرة وعزّة للإسلام والمسلمين وأن يرضى عن صاحب هذا المقام وعن منشئ هذا الدار سيدنا الشيخ محمد النبهان رضي الله عنه وكل عام وانتم بخير
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته