المولد الميمون
بقلم الشيخ إبراهيم الحمدو العمر
المولد ليست قصة تروى، ولانادرة غريبة يستمتع بها الجليس، ولاحدثاً غريباً نقرؤه لإثارة غريزة الإعجاب الذي تعشقه النفوس، ولكنما المولد ولادة النور في الأرض، بعد أن كلت من الليل الحالك وظلمته ، هو ينبوع الهدى الذي تفجر في ربوع مكة بعد أن أنهك روح الإنسان بعده عن ينابيع الهداية، فأخذ يتحسسها في عبادة الأصنام، قصة المولد هي صلة الأرض بالسماء بعد أن طال ظمأ ساكنيها، فجاء المولد ليرشف الأحياء قطرات من سلسال النبوة، ويتذوقوا شهد الفطرة، وتؤوب قلوبهم إلى كهف الإسلام بعد أن تاهت في مجاهل الخرافات، (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) (16).
[ولادة النور]
بين الفينة والأخرى، يرسل الله للبشرية من يسير بها إلى بر الأمان، ومن يخرجها من الظلمات إلى النور، ومن يحقق لأمم الأرض العدالة التي فقدوها بسبب طغيان النفوس الشاردة عن الحق، وشاءت إرادته أن تختار سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليكون النبي المختار لهدايتهم، وليحقق السعادة للبشرية، وإن البشرية بما جبلت عليه من غرائزها المختلفة لن يقودها إلى بر السلامة إلا دين موصول بأسباب الوحي، ولن يحقق لها النجاة في الدنيا والآخرة إلا نبي يبلغ خلق الله مايريده الله عزوجل منهم، ولو لم يكن الأنبياء لتاهت الأمم في جهالتها، كما تتيه باقي المخلوقات، تقودها غريزتها للفناء بلاهدف تحققه من وجودها، ولكن الله كرم بني آدم، ومن تكريمهم أن يرسل لهم الرسل بالشرائع الضابطة لسلوكهم، الماضية بهم على صراط الله، فالنبي صلوات الله عليه عصمة للبشرية، ودينه القويم هو الصراط المستقيم، وشريعته الخالدة هي صمام الأمان لبني الإنسان، وهو النور المبين الذي أكرم الله به بني الإنسان، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) المائدة (16)
[نسب شريف ]
اتفقت كتب السيرة على أسماء عشرين جدا للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصيّ بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بنِ فِهْر بن مالك بن النضر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعدّ بن عدنان، وفي تتبع حياتهم نجد أنهم سادة ورثوا المجد كابراً عن كابر، وأنهم ما سجدوا لصنم قط، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتقل – كما أخبر هو نفسه- من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزاكية، حتى ولدته الطاهرة المطهرة التي لم تسجد لصنم آمنة بنت وهب، من زوجها ذي النسب الشريف في قومه والذي لم يسجد لصنم قط أيضاً عبد الله، وحكمة ذلك أن الإنسان يتأثر بقدوته، فإذا كانت القدوة من أهل الكمال، كان ذلك أدعى لأن يتبعها الناس، وليت شعري مَن أكملُ نفساً وأعظم أصلاً من سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله عليه، وإن الأمور الجلية لابد لها من رجل عظيم ينهض بها، وإن الأمور العظيمة يستحيل أن يحملها إلا عظماء الرجال، ولاشك أن هداية البشرية هي أعظم مهمة تناط بإنسان، فلابد أن يكون هذا الإنسان ذو شأن، وخطره عظيم في كل شيء، في نسبه وشخصيته ومكانته في قومه، وعظيم صفاته التي لايشاركه فيها أحد من بني الإنسان، ولكننا لن نستفيد من هذا الجمال والكمال، ولن نتأثر بعظمة النبي العظيم صلوات الله عليه، مالم تكن أرواحنا عاكسة لشعاعه، وما لم تكن قلوبنا أوعية طاهرة تستوعب ذلك النبع المتدفق من الهداية لنختزنه فيها، ومالم ننق أنفسنا من شهواتها وباطلها لتفيء إلى الفطرة والحق الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم عن ربنا سبحانه وتعالى، عن العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا».
[وقفات قبل النبوة]
ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاط الله ولادته بأمور عظيمة أدركها من حوله، ونقلتها لنا كتب السيرة، في بيت متواضع شريف، ثم خرج لبادية بني سعد ليعيش في كنف حليمة السعدية وزوجها، ليسعدا به ويسعد بهما، وعندها نزل عليه جبريل عليه السلام وشق صدره الشريف عندما كان في الرابعة من عمره المبارك، وكان ذلك كرامة له من عند ربه عز وجل، وهي كناية عن نزع حظ الشيطان منه، لينشأ مبرءاً من كل عيب، على أكمل أحوال البشر من العصمة من الشيطان، والاتصاف بالمحامد العليا منذ نعومة أظفاره، والتى لا يفوقه فيها غيره، أخرج مسلم فى صحيحه،عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة،
فقال : هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده فى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعنى ظئره فقالوا : إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط فى صدره"
[نفس عظيمة]
شاءت إرادة الله أن ينشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً، فمات أبوه قبل أن ترى عيناه النور، وماتت أمه بعد سنوات ولم يستدفئ بحضنها الحنون، ولكن ذلك اليتم لم يمنعه من أن يكون ذا نفس شريفة لايدانيها في شرفها أي إنسان، فنشأ في الصحراء، ورعى الغنم، ثم لما شب رجع إلى قومه وعمل في مهنة قومه التجارة، وذهب إلى الأسواق، وقلب في يده الدينار والدرهم والذهب والفضة، وخالط الناس وعرف نفوسهم وأخلاقهم ، وعرفوه هم أيضاً، فعرفوا فيه نبلاً وشهامة وشهامة، وتسامياً عما عهدوه من أخلاق الشباب ممن هم في سنه، عرفوا فيه صدقاً وأمانة ووفاء قلما يتخلق بها تجار همهم جمع المال، وغايتهم دنيا واسعة عريضة، فكان سمو نفسه مثلاً يحتذى لمن هم حوله، بل ولمن سيقرأ سيرته من بعده، وكان قومه يعبدون الأصنام، ولكن عقله أبى عليه أن يذل ويخضع لأصنام لاتضر ولاتنفع، وخالط قومه في همومهم ومشاكلهم، وفي سلمهم وحربهم، فكان هو العقل الراجح الذي ترجع إليه قريش إذا طاشت أحلامها، أو خذلتها عقولها، وعلى هذا النمط من عظمة النفس نشأ عليه الصلاة والسلام حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، ليفتح لبني الإنسانية صفحة جديدة مع النبوة الخاتمة، عنوانها ( اقرأ باسم ربك الذي خلق).