{ النظريات الفقهية }
الباحث
بشيرناشد الحسني
المقدمة
الحمد لله الذي أوجدنا بقدرته، وأرشدنا بخلقه إلى معرفته، وتعبدنا بما شاء من عبادته، وصلواته على محمد المصطفى نبيه خير بريته، وعلى أهله وذريته وصحابته ، وبعد:
فأسعد الله أوقاتكم ونور قلوبنا وقلوبكم بنور العلم ، يشرفني أن أقدم بين أيديكم نظر شاملة عن النظريات الفقهية التي كثر فيها التأليف في عصرنا هذا ، فمن المعلوم أن علماء الإِسلام قد تركوا للأجيال بعدهم تراثًا علميًا مميزاً، في شتى أنواع العلوم، وما زال كثير من هذا التراث موجوداً بمخطوطًاته لم يخرج إلى النور بعد، ولم يعرفه الباحثون، على كل ما فيه من قيمة علمية كبيرة وما يحتويه من أفكار عميقة تخدم واقعنا المعاصر وتنير لأمتنا مجالات الفكر، لذا فمن المهم في هذه المرحلة أن تتجه الجهود للعمل على هذا التراث وإظهاره لينتفع منه الناس في هذا الوقت، ثم العمل على تحقيقه ونشره.
وجزى الله خيراً مكتبتنا الهاشمية التي اشتركت بسهم قيم في إحياء هذا التراث الإسلامي وإخراجه إلى النور ليستفيد منه طلاب العلم.
ففي زماننا هذا ليس هناك ما هو أهم من إصلاح أمر الدنيا بالعلم الذي يحمله العلماء، وبالاستفادة من العلوم والعلماء الربانين الذي تربوا في كنف أهل السنة والجماعة.
النظريات الفقهية قد تحدث عنها كوكبة من علماء هذا العصر فكل حملها على مسمى باجتهاده ، فبعضهم قال النظريات ماهي إلا نتاج لصياغة جديدة للقواعد الفقهية تضم تشكيلاً شكلياً للقواعد والضوابط الفقهية، وبعضهم جعلها باباً من أبواب الفقه المستقل الذي يضبط القانون ويفضي عليه نظرة شرعية عامة، وبعضهم قال إن النظريات وضعت لغير المتخصصين في الفقه الإسلامي بما يضبط تصورهم لمفهوم هذا الأمر.
o التعريف بالنظريات الفقهية:
أصل كلمة نظرية في اللغة تطلق على النظر والتفكر في ماهية الشيء، وقد أطلقها بعضهم على قضيَّة تثْبت صحَّتُها بحجَّةٍ ودليل أو برهان ، ففي المنهج العلمي تُعد "الخطوة النهائية هي إنشاء النظرية العلمية"، وهي "التتويج النهائي للمنهج العلمي، وحصاد خطواته الأخيرة، فكل ما يهدف إليه المنهج العلمي نجده دومًا في النظرية العلمية، فهي التي تحشد الوقائع والمفهومات والفروض والقوانين في سياق ملتئم واحد (فلسفة العلم، د. صلاح قنصوه ص 195)
وقد عرفها الدكتور وهبة الزحيلي بقوله ،النظرية: معناها المفهوم العام الذي يؤلف نظاماً حقوقياً موضوعياً تنطوي تحته جزئيات موزعة في أبواب الفقه المختلفة (الفقه الإسلامي وأدلته ، 4/2837.).
وأشمل تعريف وصل إليه علماء الفقه اليوم هو: أن النظريات الفقهية بناء علمي لموضوع أو باب فقهي واسع يتشكل من عناصر وقواعد وأحكام متعددة ولكنها متناسقة متكاملة (معلمة زايد للقواعد الفقهية ، المقدمة الأولى ص12.).
إذاً فالنظريات الفقهية كما سيأتي معنا تسمية جاءت من الدراسات الحقوقية ولم يسبق إطلاقها في كتب الفقهاء الأقدمين.
أنواع من النظريات الفقهية:
1- نظرية العقد في الفقه الإسلامي، وقد ضمت تعريف العقد، والفرق بينه وبين التصرف والالتزام، والإرادة المنفردة والوعد بالعقد، ثم تكوين العقد وأركانه وعناصره ،ثم شروط العقد، ثم آثار العقد (حكم العقد، النفاذ، الإلزام واللزوم)، تصنيف العقود، ثم الخيارات (خيار المجلس، الشرط، العيب، الرؤية، التعيين، النقد)، ثم انتهاء العقد، ثم تحدثت عن أنواع من العقود مثل السلم والاستصناع والصرف وغيرها من أنواع العقود.
2- نظرية الملكية، وقد ضمت تعريف الملكية والملك، ثم قابلية المال للتملك وعدمها، ثم أنواع الملك، ثم إحياء الموات والأراضي والمعادن والركاز وغيرها من الأحكام التي بنيت عليه.
3- نظرية الضمان في الفقه الإسلامي، وقد ضمت حقيقة الضمان ومشروعيته والأنواع التي تدخل في الضمان وأركانه و ما يدخل في العقود من ضمان.
4- نظرية التعسف في استعمال الحق.
5- نظرية المؤيدات الشرعية.
6- نظرية الالتزام العام.
7- نظرية الولاية الشرعية.
8- نظرية البطلان.
9- نظرية الأهلية والولاية.
- النظريات الفقهية بين الماضي والحاضر:
من المعلوم أن كتب الفقه القديمة لم يوجد فيها مصطلح النظريات الفقهية ، فهذا المصطلح نشأ في العصر الحديث وتبلورت فكرته من القوانين الوضعية للدول الحادثة ، وبدأ علماء الغرب في البحث عن أفكار تضبط القوانين فلم يجدوا أحد ضبط هذا النظام كعلماء الإسلام الذين أصلوا قواعد شرعية تضبط هذا الأمر فأطلقوا عليها مسمى النظرية .
لكن الأصل في هذا الأمر أن الفقهاء السابقين ضبطوا هذه الأمور وأصلوها فنجد على سبيل المثال لا الحصر ،
1- كتاب الخراج للقاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن معاوية الأنصاري الكوفي صاحب الإمام أبي حنيفة ، وهذا الكتاب هو رسالة ضبط فيها الإمام أبو يوسف أصول التعاملات المالية للدولة الإسلامية.
2- كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للإمام أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى 684هـ) ، وهو رسالة مفيدة تتعلق بالمرافعات الشرعية.
3- كتاب تحرير الكلام في مسائل الالتزام ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (المتوفى: 954هـ) للحطاب جمع فيه مسائل الالتزام، وضبط أقسامه، وبين مشكله، وحرر أحكامه بما لم يسبق إليه.
4- كتاب الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى أحمد بن الحسين الفراء (المتوفى 458هـ) ، جمع فيه الأنظمة الدستورية والإدارية.
5- كتاب الأحكام السلطانية للإمام أبو الحسن علي بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ).
6- كتاب مجمع الضمانات أبو محمد غانم بن محمد البغدادي الحنفي (المتوفى: 1030هـ)، من علماء القرن الحادي عشر، والكتاب رسالة جامعة في أحكام ضمان العقد وضمان اليد وضمان الإتلاف.
7- السير الكبير والسير الصغير للإمام ﷴ بن الحسن الشيباني ، وهو أول من أفرد للعلاقات الدولية في الإسلام مؤلفات خاصة يتناول فيها أحكام الجهاد والحرب، وأحكام الصلح والمعاهدات، وأحكام الأمان، وإرسال السفراء والمبعوثين، وآثار قيام الحرب، وسياسة المسلمين في تنظيم الحرب، وما يجوز وما لا يجوز في ذلك.
8- كتاب اليواقيت في أحكام المواقيت للإمام القرافي ، وقد تحدث فيه عن الوقت كشرط من شروط التكليف، وتناول ما يندرج تحته من مسائل الفقه المتوقف التكليف بها على دخول الوقت.
9- كتاب جامع أحكام الصغار للإمام ﷴ بن أحمد الأسروشني الحنفي ، وقد جمع فيه ما تناوله الفقهاء من أحكام الصغار.
10- كتاب شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال للإمام العز بن عبد السلام ، وقد تحدث فيه عن الإحسان بطريقة تجعل منه نظرية علمية متقنة.
فهذه الكتب قد جمعت بين طياتها ما يطلق عليه اليوم النظريات الفقهية، ومعلوم لدى حضراتكم أن فئة كبيرة من العلماء قد اختلفوا في هذه التسمية فمنهم مؤيد لها ومنهم من لا يوافق على إطلاق مسماها بالنظريات الفقهية لأنها لم تقم على نظر وفكر إنما هي جمع لحصيلة فقهية تعب العلماء السابقون في إخراجها للنور.
- الفرق بين النظرية والقاعدة والضابط:
لا شك أن النظرية تختلف عن القاعدة الفقهية في مضمونها ومحتواها وتعريفها وما تشتمل عليه من حيثيات ، فالقاعدة الفقهية حكم كلي ينطبق على جميع الجزئيات(شرح التلويح على التوضيح، سعد الدين التفتزاني، 1/34.)، وكذلك الضابط الفقهي فهو حكم كلي يدخل تحته مسائل تختص بباب واحد من أبواب الفقه، في الحقيقة إن الضوابط الفقهية تتوافق إلى حد كبير مع القواعد الفقهية، حتى عدها بعض العلماء بأن الضابط الفقهي والقواعد بمعنى واحد، لكن الجمهور على تفريق بأن الضوابط الفقهية هي أضيق من القاعدة وتختص بباب فقهي واحد فقط أما القاعدة فهي تتعلق بعدة أبواب، ومثال ذلك: كل ماء مطلق لم يتغير فهو طهور، فهذا ضابط فقهي خاص بباب المياه، ومثال القاعدة: الأمور بمقاصدها، واليقين لا يزول بالشك، وكلا القاعدتين في باب الطهارة وفي غيرها.
أما النظريات فهي بناء واسع لباب فقهي يجمع كل العناصر ففيه قواعد وضوابط وشروط وموانع وأركان.
o النظريات تفترق عن القواعد الفقهية بعدت أشياء:
1- القاعدة الفقهية تكون عبارتها موجزة ومختصرة وتشمل الفروع والجزئيات المندرجة تحتها، أما النظرية فهي بحث شامل لموضوع واسع، ومثال ذلك: قاعدة الضرورات تبيح المحظورات وقاعدة الرخص لا تناط بالمعاصي، فهي موجزة ويندرج تحتها فروع.
2- القاعدة الفقهية تتضمن حكماً فقهياً، أما النظرية فإنها لا تتضمن حكماً فقهياً بل هي رؤية تنسيقية لموضوع فقهي متشعب ، ومثال ذلك: نظرية الفسخ، تتضمن فسخ النكاح بمسمى الخلع و فسخ البيع وفسخ عقد الشراكة وفسخ الاتفاق بين موظف وشركة ويسمى الإقالة وإلى ما هنالك من أنواع ضمتها هذه النظرية.
3- النظرية الفقهية أكثر شمولاً فقد تدخل عدة قواعد في نظرية واحدة، وذلك بخلاف القواعد الفقهية، وخذ مثالاً على ذلك: نظرية العرف التي سنأتي عليها إن شاء الله فإنها تضم أكثر من قاعدة كـ(العادة محكمة و المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً و لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان و التعيين بالعرف كالتعيين بالنص).
4- النظريات الفقهية تشتمل على عناصر هامة في الموضوع كالشروط والأركان والموانع والقيود والضوابط، أما القاعدة فلا تتسع لكل ذلك.
5- القاعدة هي أسبق من النظريات من حيث الدراسة والتكوين، والنظرية تأخذ من القواعد فهي قوامها.
o بعض الكتب المؤلفة في القواعد الفقهية:
1- تأسيس النظائر لأبي الليث السمرقندي الحنفي.
2- الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي.
3- أنوار البروق في أنواء الفروق لأبي العباس القرافي المالكي.
4- المنثور في القواعد لبدر الدين ﷴ بن بهادر الزركشي الشافعي.
5- الأشباه والنظائر للإمام السبكي الشافعي.
6- قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام العز بن عبد السلام الشافعي.
7- تقرير القواعد وتحرير الفوائد لابن رجب الحنبلي.
8- الوجيز في إيضاح القواعد الكلية لمحمد صدقي البورنو.
- أمثلة عملية في النظريات (نظرية العرف مثالاً):
تبدأ النظرية كما يعرضها عدد من العلماء المعاصرين بنظرة موجزة للنظرية، وبين أيدينا نظرية العرف فكيف عرض العلماء هذه النظرية وكيف صاغوها، كلنا نعرف قيمة العرف في العبادات والمعاملات وما يترتب على ذلك من أثر، لذلك يبدأ العلماء بنظرة عامة عن العرف وأثره، ثم بالتعريف بالعرف، ثم ببيان أقسام العرف (القولي والعملي)، ثم بأنواع العرف باعتبار شيوعه (العام والخاص) وباعتبار موافقته للشرع (الصحيح والفاسد)، ثم بحجية العرف عند العلماء، ثم شروط العرف، ثم بيان أهمية العرف ومكانته في المصادر الشرعية، ثم ذكر التطبيقات الفقهية للعرف كـ( الأيمان والطلاق والبيع والدعاوى)، ثم بالقواعد الفقهية في العرف وهي اثنا عشر قاعدة مرتبة كالتالي:
1- العادة محكمة.
2- الثابت في العرف ثابت بدليل شرعي.
3- المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
4- استعمال الناس حجة يجب العمل به.
5- إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت.
6- العبرة للغالب الشائع لا للنادر.
7- الحقيقة تترك بدلالة العادة.
8- الكتاب كالخطاب.
9- الإشارة المعهودة من الأخرس كالبيان باللسان.
10- التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
11- المعروف بين التجار كالمشروط بينهم.
12- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
هذه نظرية من النظريات التي صاغها العلماء وجمعوا ما فيها من كتب الفقه، وتعد من النظريات الفقهية الشهيرة.
- الفوائد المرجوة من النظريات الفقهية:
1- إثبات أن الفقه الإسلامي مرن ويهتم بالعموميات كما يهتم بالجزئيات.
2- أن الفقه الإسلامي تشريع قادر على ضبط المسائل القانونية وأن القانون لا يستطيع القيام بأعباء القضاء والتشريع دون القانون الإسلامي المنظم منذ قدم الزمان.
3- التسهيل على الباحثين للإحاطة بالمواضيع العامة والخاصة.
4- جمع المسائل المتفرقة وما تحتويه من أمور.
- سلبيات النظريات:
أن الدراسة فيها تحتاج الباحث المتمكن الذي يقوى على جمع الأدلة من مظانها واستعراضها بطريقة جذابة تفيد الباحث عنها في كتب الفقه، ومن أقوى هذه السلبيات عدم الاستقراء الجيد للمادة المبحوث فيها.
الخلاصة
نستخلص من هذه المقالة المتواضعة التي أعطتنا نظرة عامة عن علم النظريات الفقهية أن فكرة النظريات:
جاءت هذه الفكرة من عند احتياج القانون الوضعي للدول الأوربية لذلك، فقد قامت روما بجمع اجتهادات القضاة السابقين لتصوغ من أحكامهم قانوناً ينظم أمور الناس، والتدرج الطبيعي لذلك أن يبدأ هؤلاء بجمع الفروع ثم يأتوا بقاعدة قانونية ثم يصوغوا منها نظرية تعطيهم تصور واضح وشامل لهذا الموضوع، فجاءت هذه الكلمة من كلام الفلاسفة، لذلك لم يتكلم كثير من الفقهاء عنها ظناً أنها اكتشاف وليست هكذا، لأن الفقه قائم على الاستنباط وليس الاكتشاف، ثم اصطلح المتأخرون على أنها طريقة في جمع الفقه.
- أن القواعد الفقهية تهتم بقضية كلية تندرج تحتها جزئيات.
- أن الضابط الفقهي ما كان مختصاً بباب فقهي واحد.
- أن النظريات بناء علمي موسع يشمل كل جزئيات القضية وتعطي تصور واضحاً عنها.
- أن القواعد تعطي حكماً فقهياً بخلاف النظرية.
- أن الباحث يسهل عليه البحث والتقصي في موضوعات النظرية وبناء نظرة شاملة عنها.
- أن العمل في النظريات يحتاج القدرة البحثية وكثرة الاطلاع حتى تتمكن من الإحاطة بجوانبها.
هذا وأسأله سبحانه النفع فيما قدمت إنه سميع مجيب.
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين