عبيـــــــــــر رمضــــــــان
بقلم الدكتور محمود الزين
بسم الله الرحمن الرحيم له الحمد وبه المستعان وعلى حبيبه سيدنا محمد وآله وصحبه أفضل الصلاة والسلام
من حين ما يهل رمضان المبارك تمتلئ الدنيا بعبير جديد مبارك ، يفوح من الأعمال الطيبة صاعدة من الأرض بإخلاص الطائعين : صياماً وصلاة وإحساناً وتعاوناً على البر والتقوى ، ومن الرحمات الغامرة تنصب من السماء بفيوض الكرم الإلهي عوناً أيّداً ، ونصراً مؤزراً ، ومغفرة واسعة ، تخزي كل شيطان وتغلق أبواب النيران ، وتفتح أبواب الجنان .
إذا غابت أو تأخرت بشائر النصر في حين من الأحيـان فإن العهد الإلهي نـاجز ولا بد ، مقبل لا محالة حثيث السير مجدّ الخطى ينتظرنا أن نفتح له الأبواب بإيمان حي يصدقه العمل الصالح ، والخلق الطيب ، والإخاء الوثيق ، والتعاون الدائب على البر والتقوى ، والإعداد التام من كل ما يستطاع قوة علم ورأي وسلاح .
والمؤمنون حين يستعدون ويعدون ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل لا ينسون أبداً أن وراء ذلك كله اليد الإلهية التي تدبر كل شؤون الكون ، وتحرك كل أحداثه كما تشاء بحكمةٍ تجل عن تدبير المدبرين وتخطيط المحاربين ومآرب الحاكمين ، وهي وحدها تقرر النصر والهزيمة { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } ولهذا لا يرهبون عدواً مهما كثر ، ولا يفل عزائمهم سلاحٌ مهما عظم ، ولا يفزعهم تآمرٌ مهما تفاقم ، بل يُعِدّون مقدار استطاعتهم ويعلقون رجاء قلوبهم بوعد الله تعالى { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } فإذا خوّفهم المرجفون قالوا : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله }
ولما كان رمضان شهر تجديد الصلة مع الله ، وتعميق الصلة مع الله ، وتمتين الصلة مع الله كان رمضان هو شهر الانتصارات المجيدة العظمى في تاريخ أمتنا ، الانتصارات التي جاءت رغم الظروف القاهرة ، ورغم تقدير المقدِّرين ، وتوقعات المتوقعين ، فولّى أنصار أبي جهل مدبرين في يوم بدر ، واستسلم أهل مكة خاضعين في يوم الفتح ، وتناثرت قتلى التتار على الطريق الممتد من عين جالوت إلى دمشق إلى حلب إلى الموصل ، حتى أُتْخِمت منها بطون الوحوش من كواسر الأرض والسماء .
ما هذه العلاقة الوثيقة بين رمضان والنصر المجيد ؟
العلاقة بلا ريب ٍ ليست علاقة بالزمان المسمى ” رمضان “ فحطين واليرموك والقادسية ليست من معارك رمضان ، وكذلك الكثير من معارك النصر المؤزر في تاريخنا ، إنما العلاقة بين رمضان والنصر المجيد هي علاقة الظرف الذي يتنامى فيه الإيمان بالإقبال على الله ، فتشتد به العزائم حتى تتصدع أمامها الجبال ، وتتحطم على حدها السيوف والرماح ، الظرف الذي تزكو فيه النفوس بمباعدة الشهوات ، فتبيع الدنيا بالآخرة ، وتستحلي الشهادة ، وتستروح من مواقع الجهاد رياح الجنة ، الظرف الذي تنشط فيه الأرواح والعقول والأجسام بطاعة الله ، فتتسابق في إعداد كل ما تستطيع من الكثير والقليل وأقلِّ القليل لنصرة دين الله ، الظرف الذي ترتفع فيه حرارة الأُخوّة فتحرق وتبدد كل خصومة تفرّق بين الإخوة ، وتصهر الجميع في بوتقتها ، فتجعلهم حربة واحدة في وجوه الظالمين ، وهم فيما بينهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، وتلك صورة حبيبة إلى الرحمن تستدر رحمته وتستنزل غياثه ، فإذا ملائكته يتذامرون لنصرة أحبابه ، وإذا رياحه جند تزمجر في وجه أعدائه ، فينصب الخوف على قلوبهم ، ويفت أعضاءهم ، ويفل عزائمهم ، فيولون الأدبار ، وتخفق في الأجواء العالية راية لا إله إلا الله محمد رسول الله راية العدل الإلهية المثلى ، راية المبادئ الإنسانية الفضلى ، تُظِل المسلمين وغير المسلمين ، فإذا رآها غير المسلمين ، وتذوقوا حلاوة عدلها ، واستشعروا سمو مبادئها أقبلوا يدخلون في دين الله أفواجاً ، يستظلون بظلالها الوارفة ويستروحون نسائمها الشذيّة .
فمن عجائب تقلبات الدهر أن يصير أتباع تلك الراية عاجزين مقهورين مغلوبين يتسولون على أبواب الأمم التي قهرتهم ، يرجون شيئاً من رحمة الوحوش ، وصدق الثعالب ، ووفاء الذئاب ، وعدالة شرائع الغاب ، عجب عجاب في غرابة التردي وسوء الانقلاب ، ولكنه في موازين الحكمة نتيجة طبيعية بديهية ؛ فمن أدبر عن الراية لن ترفرف فوق رأسه ، ومن تخلى عن المبادئ التي تهبه القوة لا يكون من أهل القوة ، ومن سلك سبيل العاجزين سقط تحت أقدام المتجبرين ، وآماله في رحمتهم هراء ، وهتافاته بهم كرماد تذروه الرياح في يوم عاصف ، مهما جنحت به الآمال ، ومهما بحت الحناجر وطال عليها الأمد بالهتاف .
هذا هلال رمضان في الأفق القريب ، والقلوب ترتقب بشائر بركاته ، وفيوض رحماته ، وغياث خيراته وعسى أن تكون مستعدة لاستقباله بإيمان حـي يصدقه العمل الصالح ، والخلق الطيب ، والإخاء الوثيق ، والتعاون على البر والتقوى ، وبذل النفس والنفيس إعداداً لاستنجاز وعد الله الكريم { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } ”إن الله لا يخلف الميعاد“
ولئن كان المسلم لا يرى رايته ترتفع اليوم على رؤوس الجيوش المظفرة فهو يراها ترتفع خفاقة في ميادين الدعوة الهادية تجمع حولها المحبين للحق من أبناء الأمم الأخرى يدخلون في دين الله أفواجاً ، ينضمون إلى عشاق ” لا إله إلا الله محمد رسول الله “ يترنمون بها كلما صدح بها المؤذنون في الأجواء ، تعطر الزمان والمكان ، وتلك طلائع البشرى { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا } صدق الله العظيم