الدكتور محمود أحمد الزين
رحمه الله
1372 - 1434هـ/ 1953 – 2013م

ترجمة الشيخ الدكتور محمود أحمد الزين-رحمه الله- كما جاءت في كتاب «الدرر الحسان في تراجم أصحاب السيد النبهان» (ج2 صفحة 221).
علم من أعلام الكلتاوية، العالم الداعية، الخطيب البليغ، المحقّق المدقّق، والمحلّل البارع، الشيخ الدكتور محمود بن أحمد بن محمود بن عيسى بن مصطفى بن محمد الملقب بالزين.
ولادته: ولد -رحمه الله تعالى- في حي باب النيرب بحلب بسورية، وذلك عام 1372هــ/ 1953م.
نشأته وأسرته:
سليل الدوحة النبوية، وغصن الشجرة المحمدية؛ ينتهي نسبه الشريف إلى سيدنا الحسن.
نشأ في بيت علمٍ وسير وسلوك؛ فوالده الشيخ أحمد من العلماء الصالحين، وقد ربّى أولاده على حبّ العلم والأولياء والصالحين.
رُزق الشيخ أحمد بخمسة من الذكور: أكبرهم الدكتور محمود -رحمه الله-، ثم الدكتور حمزة. وقد تخرج في مدرسة الشعبانية، وحصل على الدكتوراه في الحديث الشريف من الأزهر الشريف.
ثم الشيخ محمد الذي تخرج في مدرسة الكلتاوية (دار نهضة العلوم الشرعية)، وانتسب إلى كلية الفلسفة بجامعة دمشق ولم يكمل.
ثم الشيخ حامد الذي تخرج في مدرسة الكلتاوية (دار نهضة العلوم الشرعية)، ويحمل ليسانس من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كلية القرآن الكريم، وهو حافظ للقرآن الكريم على القراءات، ثم حصل من المعهد العالي للدعوة في مكة المكرمة على الماجستير.
ثم الشيخ علي الذي انتسب إلى مدرسة الكلتاوية ولكن لم يكمل.
وكان والدهم الشيخ أحمد قد انتسب إلى السيد النبهان عام 1960م، وذلك بعد بحث طويل عن المرشد الكامل؛ وقد تَنَقَّل في سبيل ذلك من شيخ إلى شيخ حتى وفقه الله للتشرف بالعارف بالله الكامل.
أولاد الدكتور محمود الزين: محمد، أحمد، زين العابدين، أبو بكر عبد الله، الحسن. وخمس بنات.

دراسته ودرجته العلمية:
انتسب إلى مدرسة الكلتاوية (دار نهضة العلوم الشرعية) عام 1968م، وبجانب هذه الدراسة حصل على الشهادة الإعدادية العامة عام 1971- 1972م، ثم تخرج في مدرسة الكلتاوية (دار نهضة العلوم الشرعية) ونال شهادتها عام 1974م.
ثم نال شهادة الثانوية الأزهرية من معهد القاهرة عام 1974- 1975م.
ثم تخرج في جامعة الأزهر (كلية اللغة العربية) عام 1978م.
حصل على الماجستير في البلاغة والنقد من جامعة الأزهر (كلية اللغة العربية) عام 1986م. وعنوان رسالته: «الآيات القرآنية في كتاب الإيضاح للخطيب القزويني، مواطن الاستشهاد ومسائل الخلاف» بإشراف الدكتور محمود عبد العظيم عبد الله صفا، أستاذ البلاغة والنقد المساعد بكلية اللغة العربية بالقاهرة.
ثم حصل على الدكتوراه من كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر برسالة عنوانها: «المباحث البلاغية في تفسير الطبري - علم المعاني» بإشراف العلامة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى -حفظه الله تعالى- وقد نوقشت الرسالة عام 1993م ونالها بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف.
وبعدما أتم تحضير الرسالة وسلمها طار مشرفه بها فرحًا في رواق الجامعة وهو يصيح: «الله أكبر الطالب محمود الزين فجر قنبلة ذرية».
وكان قبل ذلك قد بدأ بإعداد بحث عن المجاز ليكون رسالته لكن مشرفه الدكتور محمد أبو موسى كان له رأي آخر فانتقل إلى تفسير الطبري.
قال الدكتور محمد أبو موسى عن رسالة المجاز التي ألفها الدكتور محمود الزين: «هذا البحث لم أرَ من كتب فيه من قبل بهذا المستوى وأنا استفدت من رسالة الشيخ محمود الزين كثيرًا، لم يكتب في بابه أفضل منه».
قلت: سألت الدكتور محمود الزين -رحمه الله-: لقد اخترتم اللغة العربية في دراستكم فما سبب اختياركم هذا؟ وما هي الآفاق التي فتحت أمامكم من خلال اختصاصكم بها في مجال الدعوة والتأليف؟
فأجابني: «اختيار اللغة العربية كاختصاص للتعمق في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية لأنها الأداة الأولى لإدراك مقاصدهما وأحكامهما ولاسيما علم البلاغة الذي هو ذروة سنام العلوم العربية، وهذا يعمق فهم الإنسان لمقاصد القرآن في الدعوة وأساليب الدعوة وحكمة الدعوة».
وسألته -رحمه الله-: ما سبب اختياركم لتفسير الطبري دون غيره في رسالتكم للدكتوراه؟
فأجابني: «علم البلاغة مرَّ بمراحلَ؛ ويكاد يكون بدؤه مع كتب الجاحظ ومعاصريه، وقد خُيّل لبعض الناس في العصر الحديث أنَّ علم البلاغة نتاج الفلسفة القادمة من عند اليونان؛ يريدون بذلك أن يزعموا أن العلوم الإسلامية حتى علوم العربية هي ثمرة دخول الثقافة اليونانية، وكذلك وَجَدَ بعضٌ من النَّاس ممَّنْ يُسَمُّونَ أنفسهم السلفيين، يزعمون أنّ المجاز ليس من اللغة العربية، وإنّما أقحمه المعتزلة والمتفلسفون على علوم العربية. وكلا الرأيين باطلٌ بداهةً عند من يتعمق في دراسة العربية.
والبرهان على ذلك يكون بإثبات المجاز وغيره من مباحث البلاغة في كلام الصحابة والتابعين وأئمة التفسير قبل دخول الفلسفة اليونانية؛ وهذا ما وجدته في تفسير الطبري، وحاولت أن أجمعه لمن يريد أن يعر ف أصالة علم البلاغة في لغتنا العربية.
فالطبري لغوي كبير، يعتبر من أئمة المذهب الكوفي في اللغة العربية، وهو محدث من أئمة أهل الحديث؛ وهو فقيه وصاحب مذهب متبع؛ وهو مفسر مقدم على كل المفسرين، ولا بُدَّ لمثله أنْ يعتمد على ما يعرف من علم البلاغة، وأن يحلل كثيرًا من الآيات تحليلًا بلاغيًّا، يُظْهِرُ فيه الأصولَ البلاغية التي يعتمد عليها، فجَمْعُها يُعتبر خدمة لهذا العلم، وكشفًا لوجوده في عقول العلماء قبل أن يكتب فيه الجاحظ وغيره.
كما أن علماءَ المذاهب الفقهية الثلاثة حين رأَوْا أصول الفقه في كتابات الشافعي رجعوا إلى ما ورثوا من علم الأئمة الثلاثة الآخرين، واستخرجوا من فروع الفقه المنقولة عنهم قواعدَهم في أصول الفقه التي كانت في عقولهم، وبنوا عليها فقههم، ووُجِدَ لديهم علم أصول الفقه الخاص بمذاهبهم.
ولذلك قال المشرف على البحث الدكتور محمد أبو موسى في بعض كتبه: إنّ هذا البحث كشف عن أصول علم البلاغة في فترة ما قبل التأليف الخاص بها».
وقال الدكتور أبو موسى عن رسالة الدكتوراه للشيخ محمود الزين: «هذا البحث أضاء نصف تاريخ البلاغة ولو أنك أتبعته بكتابة تاريخ البلاغة لكان عملًا متفردًا» وهذه العبارة كتبها الدكتور أبو موسى بخط يده على رسالة الدكتور الزين.
وتكلم الدكتور أبو موسى أمام جمع من الشيوخ عن رسالة الدكتوراه للدكتور محمود الزين فقال: «هذا البحث أثبت أن البلاغة لم يكتبها عبد القاهر وإنما كتبها الطبري بل أثبت هذا البحث أن الطبري كان جامعًا لما تفرق من الكلام في البلاغة مرويًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين».
ومرة كان الدكتور محمد أبو موسى في مجلس ومعه جمع من مشايخ الكلتاوية فقال: «هذا محمود الزين أنا أستفيد من كتابته يأتيني بكلام من كلام الأئمة مما يتعلق بالبلاغة لم أطلع عليه».
وقال عن رسالة المجاز التي ألفها الدكتور محمود الزين: «لم أقرأ في بابه أفضل منه».
قلت: وكل هذه الأقوال سمعتها وكتبتها من الدكتور محمود الزين -رحمه الله- مباشرة.


عمله:
كان الشيخ محمود -رحمه الله- أولَ إمام في جامع الفرقان عند افتتاحه، وكان وقتها طالبًا في الكلتاوية، وذلك بتكليفٍ من سيدنا محمد النبهان رضي الله عنه.
ثم فيما بعد كان إمامًا في جامع العبَّارة في حلب، وإمامًا وخطيبًا في قرية المرقب في بانياس من عام 1975 إلى عام 1977م، وإمامًا في جامع شاهين بيك، وخطيبًا في جامع الرحمن اثني عشر عامًا، وخطيبًا في جامع الراشدية الكبير بدبي، وخطيبًا في جامع الشيخ زايد في عجمان، وخطيبًا في جامع البراء بن عازب بالشارقة.
وعمل -رحمه الله- مدرسًا للغة العربية، وأصول الفقه، والقراءة العربية، والإملاء، والخطابة في دار نهضة العلوم الشرعية من عام 1977-1978م إلى عام 1979م.
انتقل بعدها إلى المدينة المنورة للعمل في الجامعة الإسلامية (كلية اللغة العربية) برتبة معيد وذلك من عام 1980-1981م حتى نهاية العام الدراسي 1984-1985م.
قلت: سألته، رحمه الله: عملتم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، فلو حدثتمونا عن طبيعة عملكم فيها وعن جانب من ذكرياتكم هناك؟
فأجاب، رحمه الله: أما طبيعة العمل فقد كانت على خلاف العقد المكتوب؛ وهو وظيفة معيد في كلية اللغة العربية لكن كان العمل الفعلي هو الإشراف على الطلبة في مساكنهم.
وأما الذكريات فحديثها يطول جدًّا وأطيبها كثرةُ زيارة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ويُسْرُ أداء الحجّ والعمرة، وحضور الجماعات في الحرم الشريف، وقراءةُ العلم فيها، وتتبع ما يمكن من الآثار النبوية، وهذا إجمال يتضمن تفصيلات كثيرة.
حدثني صديقه الدكتور عثمان عمر المحمد قال: «وروينا في تلك الفترة صحيح مسلم بسند متصل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في مسجده الشريف، عن الشيخ حبيب الله قربان علي-رحمة الله عليه- وموطأ الإمام مالك عن الشيخ محمد عاشق إلهي في بيته، كان يقرأ وأنا والشيخ نسمع، أو أنا أقرأ، وهو والشيخ يسمع إلى آخر الكتاب ثم أجازنا بصحيح مسلم وبجميع مروياته».
عاد بعد ذلك إلى حلب، وعمل مدرسًا في الكلتاوية إلى منتصف الشهر الثاني من عام 1997م.
انتقل بعد ذلك إلى دولة الإمارات العربية المتحدة للعمل في دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي؛ وعمل فيها برتبة باحث أول، وهو أيضًا عضو هيئة التحرير في مجلة الأحمدية منذ إنشائها 1997م، ثم أصبح برتبة كبير باحثين، وانتقل بعدها إلى دائرة الشؤون الإسلامية بدبي أيضًا برتبة كبير باحثين.

(من اليمين: الدكتور محمود الزين، الدكتور عثمان العمر، الأستاذ الدكتور محمود فجال)

(مع شيخه الأستاذ الدكتور محمود فجال رحمهما الله)
من شيوخه في مدرسة الكلتاوية:
الشيخ محمد لطفي، والشيخ علاء الدين علايا، والشيخ محمد بشير حداد، والشيخ محمد أديب حسون، والشيخ نذير حامد، والشيخ الدكتور محمود فجال، والشيخ عبد الرحمن حوت، والشيخ نزار لبنية، والشيخ عبد البر عباس، والشيخ صالح بشير، رحمهم الله جميعًا.
زملاؤه في مدرسة الكلتاوية:
أحمد محمد العيسى، وإسماعيل منصور، وسعد الله مصطفى قاسم، وعباس كوكو العلي، وعبد الجواد عاشق، وعبد الرزاق عيسى الصالح، وعبد القادر الزين، عبد القادر حفني، وعبد المنعم سالم، وعمر حاج علي الدحدوح، وعيد العبيد العلي، ومحمد الناصر علي، ومحمد ربيع الخالد، ومحمد علي الحسن الإبراهيم، ومحمد مصطفى حوت، ومحمد وليد حوت، ومحمد يعقوب الإسماعيل، ومصطفى حمدو حج حسن. وهذا هو الفوج الخامس الذي تخرج في الدار.
السير والسلوك عند العارف بالله سيدنا الشيخ محمد النبهان رضي الله عنه:
سألته، رحمه الله: هل لك أن تحدثنا عن التعرف على السيد النبهان رضي الله عنه؟
فأجابني قائلًا: «السيد النبهان - قُدّسَ سِرُّه - رأيته أول مرة في سن الطفولة في حدود عام 1381هـ تقريبًا، وقد أخذني والدي -رحمه الله- معه وعمري ثماني سنوات تقريبًا، وكان سيدنا -قدس سره- كثيرًا ما يقول: «إنّ حضور الطفل مفيد؛ يتذكر ما يصنعه الآن، وعند الكبر ينتفع به». وكان والدي -رحمه الله- يصطحبني معه بين حينٍ وآخر.
وأذكر أنه اصطحبني بعدما أنهيت الصف الرابع الابتدائي، وكانت المدرسة لم تنشأ بعد فقال والدي لسيدنا: أريد أن أدخل ابني هذا طلب العلم. فأجابه سيدنا: «انظر رغبته فمن لا رغبة له لا يستفيد» فسألني سيدنا - قدس سره - فقلت: أريد أن أكون هنا.
فقال رضي الله عنه: هنا ليس عندنا مدرسة، تعني طلب العلم؟
فقلت: نعم.
فقال لأبي: أدخله في طلب العلم.
وشاء الله أن يكون ذلك بعد افتتاح مدرسة الكلتاوية بعدة سنوات حيث دخلتها عام 1968- 1969م.
وسألته، رحمه الله: هل لك أن تحدثنا عن سبب انجذابك إلى شخصية السيد النبهان رضي الله عنه ؟
فأجاب: «أما عن سبب الإنجذاب إلى شخصية السيد النبهان فقد كان الشعور السابق - والذي سبق ذكره عن أيام الطفولة - يترسخ و يتعمق كلمّا تجددت أخبار السيد -قدس سره- على سمعي، وكلما حظي برؤيته بصري، لا سيما ماكنت أسمعه من والدي -رحمه الله- من أخبار شجاعته التي لا نظير لها، وأخبار جوده التي لا تخطر على البال، وأخبار آثاره العظيمة في الإصلاح مع أن إدراكي لهذه الأمور في تلك السن «خمس عشرة سنة» كان إدراكًا محدودًا إلى أن أكرمني الله -عز وجل- بكلامه معي يوم تقدمت للدراسة في الكلتاوية في سن السادسة عشرة، ورأيت من رِفْقِه ولطفه وحرصه على طالب العلم مع ما أعلمه من عظمة هيبته ما نبهني إلى معنًى جديد من وراثة النبي -صلى الله عليه وسلم- شعرت به، ولم أكن قرأت الحديث الذي يذكره بعض الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه». ومنذ دخلتُ مدرسته - قدس سره - كانت تلك العظمة في وراثة النبي -صلى الله عليه وسلم- تزداد وضوحًا في عقلي، ورسوخًا في قلبي ولكن على قدر إمكانياتي، وإنْ كانت فيوضه - قدس سره - تُوَسِّعُ الإمكانيات وترقى بها، فلا يَشْعر الماثل في حضرته إلا أنه أمام ظل الحبيب الأعظم -صلى الله عليه وسلم».
سألته، رحمه الله: ماهو الأثر الذي تركه فيك أول لقاء معه رضي الله عنه؟
فأجابني: «اللقاء الأول هو في عام 1381هــ لا أعي الآن شعوري فيه لكني أتذكر ثلاثة أمور:
أولها: شعرت كأن سيدنا -قدس سره- شمس تضيء؛ لم أر ذلك بعيني إنما هو شعور.
والأمر الثاني: أنه أسمى من كل الشيوخ والعلماء الذين رأيتهم من قبل، وكان والدي -رحمه الله- كثير التردد على العلماء قبل أن يتعرف على السيد -قدس سره- وكان يصطحبني معه أحيانًا.
والأمر الثالث: هو أنني كنت أسمع من والدي عن أولياء الله فشعرت حين رأيته أنني أمام ولي عظيم من أولياء الله».
وسألته رحمه الله: هل رأيت منه -رضي الله عنه- كرامة؟
فأجاب: بالرغم من أن السيد النبهان -رضي الله عنه- لم يكن يعوّل على الكرامات، ويردد دائمًا أن الاستقامة هي عين الكرامة، فقد كان يذكر أيضًا أن الخاصة من أولياء الله لا يحرصون على الكرامة ولكن الله يجريها عليهم بفضله.
وسأذكر إن شاء الله من الكرامات شيئًا يسيرًا يدل على ما وراءه، أذكره لأني رأيته بنفسي فضلًا عما سمعته من أصحاب سيدنا كبارًا وصغارًا، فمما أذكره:
أنه كانت لي أختٌ مصابة بمرض عصبي شديد تفقد به السيطرة على تفكيرها وكلامها، وكان متقطعًا يعاودها كل فترة، وقد أعجز الأسرةَ شأنُها من علاجات وغيرها، فأتينا بها إلى السيد النبهان - قدس الله سره - وهي في أشد أحوال المرض، فأشار إليها من بعد وهو يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» فشفيت على الفور بإذن الله تعالى و لم يعاودها المرض إلا بعد سنوات، وبشكل أخف كثيرًا مما كان.
والأمر الثاني: أنه قدس الله سره أخبر أمام بعض أصدقائي أنني لن تنالني الخدمة العسكرية، وذلك في عام ثلاث وسبعين قبل الحرب، في وقتٍ كانت الخدمة العسكرية لا يحلم أحدٌ بالخلاص منها، وتم لي ذلك عام 1985م بعد ثنتي عشرة سنة.
وأمر ثالث: هو أنه كان لديَّ قطعة من ثوبه-رضي الله عنه- فوضعتها على إنسان به مس من الجن شديد فأفاق فورًا، وقد تكرر ذلك مرارًا بإذن الله تعالى.
وكرامة خاصة أخرى أجد أنه ينبغي لي أن أذكرها لأهميتها في بيان أن سيدي محمدًا النبهان قدس الله سره هو وارث محمدي كامل الوراثة، وقد أخبرني بها أخي الكبير الشيخ محمد نبيه سالم وأخي الشيخ عثمان عمر المحمد نقلًا عن الشيخ أحمد المعود -رحمه الله- وهو من زملاء سيدنا في العلم والطريق «أنه دخل على سيدنا محمد النبهان مرة فرآه في صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما وصفتها كتب الشمائل المحمدية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والتحية- قال الشيخ أحمد فرجعت من الباب ولم أجلس وأُخِذ قلبي ورجعت إلى بيتي وظللت مأخوذ القلب أسبوعًا في شبه غيبوبة».
وما رأيته من كراماته -قدس الله روحه- بعد وفاته أكثر مما رأيته في حياته، فكثيرًا ما توسلت به إلى الله تعالى في أعقد المشكلات ففرجها الله تعالى كما رأيتُ من بركة آثاره الشيء الكثير، ومن أظهر ذلك وضع شيء من ثيابه على الممسوسِ والمصروع فيفيق بإذن الله تعالى.
وسألته، رحمه الله: متى كان آخر لقاء لك بسيدنا النبهان؟
أجاب: آخرُ مَرّة رأيت فيها سيدنا النبهان -قدس الله سره- كانت قبل وفاته بأيام قليلة جدًا؛ حين كان ذاهبًا إلى المستشفى الذي توفي فيه، وقد كان يمشي على عادته مشية قوية لا يشعر الناظر إليها بأنها مشية مريض ولذلك استغربت حين قيل لي إنه ذاهب إلى المستشفى.
وسألته -رحمه الله-: ماذا تعني لك الكلتاوية؟
فأجاب: الكلتاوية تعني لي ما يعنيه الماء، والنسيم، والشمس، والتراب للنبات.
وسألته، رحمه الله: مَنْ أثّر في بناء شخصية الدكتور محمود الزين العلمية والروحية؟ وهل هناك من أثّر في الدكتور محمود الزين من خارج سورية؟
فأجاب، رحمه الله: المؤثرون فيّ بعدَ سيدنا -قدس سره- إجمالًا هم كل أساتذتي، وأعمقهم أثرًا روحيًّا هو الشيخ محمد لطفي -رحمه الله- وكان سيدنا -قدس سره- قد ربطني بالشيخ محمد لطفي من هذا الجانب حين لا أتمكن من لقاء سيدنا، وأخبرني الشيخ محمد لطفي أن سيدنا أمره بذلك.
وأكثرهم تأثيرًا علميًّا من حيث التحصيل الشيخ محمود فجال، والشيخ نذير حامد، وأكثرهم من حيث النهج العلمي الشيخ علاء الدين علايا.
ومن الأزهر تأثرت في مرحلة الدراسات العليا (الدبلوم) بالشيخ أحمد الحجار».
سمعت من شيخنا -رحمه الله- أن سيدنا العارف بالله الشيخ محمد النبهان عنه قال عنه: (محمود الزين مْلِيح أنا بَحُبّه).
وسمعت منه أيضًا قال: سمعت من عبد الله الناشد قال: قلت لابن سيدنا أبي فاروق، رحمه الله: إذا كنت أريد أحدًا يقرأ لي على مريض فعلى من تدلني؟ قال: عليك بمحمود الزين.
قال عبد الله الناشد: قلت: يا سيدي ما رأيك به؟
قال: ينقلون أن سيدنا النبهان بنى المدرسة إما لعشرة أو لواحد، فإذا كانت المدرسة بنيت لعشرة فمحمود الزين أحدهم، وإذا كانت بنيت لواحد فمحمود الزين هو الواحد.
كان الشيخ محمود -رحمه الله- من أفضل منْ يغرس مفهوم النبهانية، ويُعلّمه لمن يريد الرشف من ذلك المَعين الطاهر عن علم وسلوك وأدب وتطبيق، فلا يترك للشيطان مدخلًا يشكك في المشرب النبهاني؛ لأن تلقينه له عن علم وأدب وسلوك ومحبة وتطبيق.
من عرفه عن قرب شغف بالنبهانية التي ربَّتْهُ وغَذَّتْه وهيأته لتدل الصادقين عليها؛ لأنه لم يدل عليها بعاطفة مجردة بل بعلمٍ وحُجَّةٍ ومحبةٍ صادقةٍ قائمةٍ على التبصّرِ والتحقيق.
إذا حدّثك عن مربيه فتراه إنسانًا آخر، يذهب عنه ألمه ومرضه ويتحول من عالَم إلى عالَم آخر؛ وخاصة في أيامه الأخيرة حين كان في المستشفى، فعندما كان يزوره بعض طلاب العلم ويحدثهم عن سيدنا النبهان فكأنّه ليس به بأس حتى لُوْحِظَ ذلك. فقال أحد العاملين في المستشفى: أتمنّى أنْ تكثروا من هذه الزيارات له فإنَّ حالته تتحسن كثيرًا عندما يتحدث لزائريه.
ومع أن الشيخ محمود باحث عقلاني لا يستسلم بسهولة لأي رأي لكنَّ استسلامه لأهل الله تعالى وللسيد النبهان -رضي الله عنه- يفوقُ التصور، وهذا يَدُلُّ على أنه ذو عقل كبير وذو روح شفافة، فقلّما تجد أحدًا بهذا المستوى من الاعتقاد والتسليم ويأتيك بالبراهين والأدلة على ذلك، ما حزبه أمر صغير أو كبير إلا نادى يا سيدي النبهان وتوجه إليه بقراءة الفاتحة.
من صفاته:
هو - رحمه الله - مثالٌ للصوفي السالك المحب عن علم وبصيرة وتحقيق، العلم عنده أخٌ محبوبٌ ومعشوقٌ، إذا ركن إليه غفل عما سواه.
كانت معرفته تحقيقًا وذوقًا في كل ما يتكلم به، ملك عقلًا كبيرًا يَزِنُ به الأمور، ويقايس بين المختلفات ليخرج بزبدةٍ قَلّ أن تسمعها من غيره أو تجدها عند سواه.
كان مثالًا يُحتذى به لكل من أراد طلب العلم، وأنموذجًا يُقْتدى به للعالم الشجاع الصبور الذي تحمَّل المشاقَّ في طلب العلم.
لقد أعطى الشيخ محمود الِعلمَ كلَّ ما يملكه من وقتٍ وصحةٍ وعُمُرٍ ومالٍ فرزقه الله التبحّرَ في العلومِ حتَّى إذا تكلم في أي عِلْمٍ منها لا تراه إلا صاحب اختصاص به من شدة تمكنه به.
كان يوصي طلابه فيقول: «يا أولادي عليكم بعد تخرجكم من المدرسة الكلتاوية أن تقرؤوا كل يوم ثماني ساعات لمدة أربع سنوات متواصلة لتصبحوا من أعلم الناس».
قرأ تفسير الطبري كاملًا عدة مرات في أثناء العمل على رسالة الدكتوراه.
ومرة سمع أو قرأ عن أحد اللغويين أن إحدى القواعد في علوم اللغة لا يوجد لها إلا شاهد واحد فقرأ ديوانًا شعريًّا لأحد شعراء الجاهلية أو القرن الأول في الإسلام فاستخرج منه أربع شواهد.
جمع -رحمه الله- بين الفصاحة والبلاغة، واختصَّه الله بعلومِ الآلة كاللغةِ العربيةِ وعلوم الأصول مع قوةٍ في الحجة والبرهان.
ظهر في قناة الشارقة بحلقات عدة مع الأستاذ الدكتور عجاج الخطيب، فقال له الدكتور عجاج: يا دكتور محمود لم لاتتعاقد معنا في الجامعة جامعة الشارقة، وكان عميد كلية الشريعة فيها، فقال له الدكتور محمود: أنتم لاتتعاقدون معي، فقال: لمَ؟ قال: لأجل اختصاصي. قال: مااختصاصك؟ قال: في البلاغة. فتعجب الدكتور عجاج وقال: ماكنت أظن ذلك، كنت أظن اختصاصك في الفقه وأصوله أو الحديث وأصوله. أما أن يكون اختصاصك في البلاغة فهذا لايخطر في بال. وهذا لسعة معرفته بشتى العلوم.
حياته تمتاز بالتحصيل العلمي والنشاط الدعوي المميز بكل إبداع وبراعة.
علوّ همته:
سأل ابنَه يومًا: ماذا تطمح أن تكون؟ فقال: أريد أن أكون مثلك فابتسم وقال: يا بني أنا عندما بدأت بطلب العلم كنت أطمح أن أكون مثل الإمام الشافعي ولم أصل إلا إلى ما ترى فكيف بك؟!
في حياته لا يعرف التكلّف. وكان يكرر عبارة: أَوَ كل ما اشتهيت اشتريتَ؟!
كان كريمَا، ديدنه النزاهة وعدم التطلّعِ إلى ما في أيدي الناس أبدًا، معشره طيّبٌ، وصاحبُ تواضع جَمّ، وأخلاق راقية، كنا إذا جالسناه لا نشعر بكلفة.
من ورعه رحمه الله: أنه أراد مرة أن يراسل أحد المشايخ في المدرسة فنادى ابن هذا الشيخ وحمله الرسالة شفوية ثم خشي أن ينسى فطلب منه ورقة ليكتب عليها فأشار له الطالب إلى قصاصات الورق في غرفة الموجه فقال: لا يا بني! رسالتي إلى والدك شخصية وهذه القصاصات لخدمة المدرسة والطلاب اذهب وائتني بورقة أخرى.
من رحمته -رحمه الله-:
مرة أنّب طالبًا في المدرسة لخطأ وقع فيه ولما عاد إلى المنزل وأراد النوم لم يستطع أن ينام فقام وارتدى ثيابه وهمّ بالخروج فلما سئل ما الأمر؟ قال: كأني قسوتُ على الطالب ولا أريد أن ينام مكسورَ الخاطر فذهب إلى المدرسة واستسمح الطالب ثم عاد.
من بركة دعائه بسر سيدنا رضي الله عنه :
يومًا من الأيام أكرمنا الشيخ محمود الزين -رحمه الله- بزيارةٍ وقد حضر في المجلس بعض طلابه، ومنهم: أخونا الشيخ أحمد قرو وكان قد انقطع عندهم الحمل بعد الولد الأول لمدة خمس سنوات أو أكثر ولا يأتيهم أولاد وذهبوا من طبيب إلى طبيب دون فائدة، فشكا إلى الشيخ محمود حاله، فقال له الشيخ محمود: هات كأسًا من الماء، فأتينا له بذلك فقرأ عليه وأطال، ثم أعطاه للشيخ أحمد قرو وقال له: اشرب نصفه وأعطه زوجتك لتشرب النصف الآخر. وبعد شهر من هذه الحادثة أكرمهم الله بالحمل، والآن عنده خمسة أولاد لله الحمد.
إجازاته العلمية:
إجازة من الشيخ محمد عاشق إلهي البرني -رحمه الله تعالى- (أحد علماء الهند، ودرّس في جامعة دار العلوم ديوبند وبعدها في رمضان 1396 هـ ذهب إلى الحجاز واشتغل بالتدريس والتصنيف) قرأ عليه أكثر موطأ الإمام مالك في المدينة المنورة وأجازه بباقيه وبالكتب الستة ومسند الإمام أحمد وغيرها سنة 1405هـ. وأسانيد الشيخ محمد عاشق مطبوعة في ثبت خاص به.
إجازة من الشيخ حبيب الله قربان علي، كاتب الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي -رحمه الله- وهو خريج جامعة مظاهر العلوم. قرأ عليه صحيح مسلم وسمع بعضه بقراءة الشيخ عثمان عمر المحمد في المسجد النبوي الشريف، وكذلك أجازه بموطأ الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وعدد من أبواب صحيح البخاري، وأجازه بأربعين كتابًا من مراجع الحديث.
إجازة من الشيخ محمد المنتقى النيجيري إجازة عامة بمروياته، ومنها إجازة عامة عن الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي وأسانيده مطبوعة في كتابه «أوجز المسالك شرح موطأ مالك».
إجازة من الشيخ مالك بن أحمد الشريف السنوسي.
إجازة عامة من الدكتور محمود فجَّال في علوم اللغة العربية.
مع الشعر:
له - رحمه الله - باع طويل في الشعر قراءةً وذوقًا وتأليفًا، وأول بيت ألَّفه عام 1400هـ:
لواؤك الحق في الأجواء خفاق
|
|
وروح جندك إقدام وأشواق
|
من قصائده -رحمه الله- عن السيد النبهان:
(أمنية الزهراء)
زهـراء سيـدة النســاء وفضلهـا*أعطى الحياة رحيقها وضياها
هي فَلْذَةُ من قلب طه المصطفى*هي ومضة من روحـه معناهـا
نَثَرَتْ على الدنيــا لآلـئَ نسلـه*فـأضاءتِ الدنيـا إلى أقصاهــا
كانتْ تَمَنَّى أن ترى من نسلها*فـي كل عصرٍ مـن بـه تتباهى
فاض السرور بقلبها لمَّا رأتْ*نبهـانَ حقّق حلمهـا وَ مُناهـا
دمها جرى بالإرث ملءَ عروقه*دُرّاً عليــه مـآثراً ثديـاهــا
فغدا بِـهِ القرآنُ حَيَّـاً ناطقــاً*و رَأَتْ بـه الدنيـا شمائـل طــه
يحيي القلوب بنظرة قُدْسيَّةٍ*مِنْ قلبِ أحمدَ سِرُّها وَ سناها
غضباته تحمي الحمى بلهيبها*ويمينه تغذو ألدَّ عداها
فَيَدٌ تقارع في الوغى أعداءها*وَ يدٌ تفيض على العباد نداها
الخيرُ أجمعُ في ارتشاف كؤوسه*قسماً بشمس جبينه وضحاها
ومن قصائده المنشورة:
الأسير المطلق، الرحمة الهادية، القدس وأبطال العودة، شتم العظماء حرية السفهاء، ربوعنا الأسيرة، اللغة المثلى، هموم وأقدار، أمنية الزهـراء، قصيدة عن الحج، في وداع أستاذنا العلامة الشيخ علاء الدين علايا، وداعًا موكب النور: رثاء الحبيب عبد القادر السقاف، ياعلم الأشراف: رثاء الشيخ محمد علوي المالكي، دنا الرحيل، وغيرها كثير.

آثاره العلمية:
له كتب وبحوث ومقالات كثيرة ومتنوعة أهمها:
1-الآيات القرآنية في كتاب الإيضاح (رسالة ماجستير)
2-المباحث البلاغية في تفسير الطبري (رسالة دكتوراه)
3-الظن وقضاياه في قواعد علوم الحديث الشريف.
4-حديث الآحاد الصحيح بين العلم القاطع والظن الراجح.
5-رد الشبهات عن منهج رواية الحديث الشريف.
6-عمل الأئمة بحديث: «أصحابي كالنجوم».
7-حوار القرآن مع المخالفين أصوله وأساليبه.
8- أثر القرآن الكريم في ترسيخ الإخاء الإسلامي وتجنب الافتراق.
9-من دقائق البيان في حوار القرآن.
10-ترجمة القرآن.
11-تيسير البيان عن إعجاز القرآن.
12-القرآن إعجاز تشريعي متجدد.
13-تفسير سورة الضحى.
14-في القصاص حياة.
15-من أسرار البيان في مطلع سورة الإسراء.
16-من بلاغة سورة الكوثر.
17-هل آيات القرآن كلها في درجة واحدة من البلاغة؟
18-هل يتعارض القرآن والحقائق العلمية؟
19-أثر علم البلاغة في تفسير القرآن الكريم.
20-أهمية اللغة العربية في فهم القرآن والسُّنة.
21-من قلب لغتنا العربية مقالات عن لغة القرآن.
22-مفاتيح فهم الكلام العربي.
23-لغة القرآن.
24- بين يدي رسالة «اللامذهبية قنطرة اللادينية».
25- الدعاء بعد الصلاة المفروضة سُنّة أم بدعة.
26-التوسل في سنة النبي ﷺ وأصحابه.
27-زيارة النبي ﷺ أحكامها وآدابها (دراسة تأصيلية على ضوء الكتاب والسنة وآثار السلف).
28- دفع الأوهام عن الصلاة على خير الأنام.
29- منهاج الوفا في نجاة والدي المصطفى.
30- مجالس الصلاة على النبي في رحاب الدليل الشرعي.
31- أربعون حديثًا في زيارة النبي ﷺ.
32- التراويح في سُنّة النبي ﷺ وأصحابه j.
33- البيان النبوي عن فضل الاحتفال بمولد النبي.
34- تنزيه الرحمن عن الجهة والمكان.
35- رؤية الرسول ﷺ في اليقظة.
36- عبادات نصف شعبان.
37- الإستغاثة الشرعية.
38- مجالس الذكر في سُنّة النبي ﷺ وأصحابه على ضوء قواعد الاستدلال.
39- الربا ظلم واستحلاله شبهات باطلة.
40- سُنّة الاعتكاف.
41- رؤية الهلال واقع عشوائي أم اختلاف فقهي؟
42- العارف بالله السيد النبهان -قدس الله سره- نفحة من عبيره.
43- سيدنا محمد ﷺ ومعجزات الخلق العظيم.
44- دعائم الاحتشام.
45- طريق الآخرة في تراث الشيخ سعيد النورسي بديع الزمان.
46- فضائل مذهب الإمام مالك، رحمه الله.
47- هل المعرفة نسبية؟
48- مفهوم الثقافة.
49- حجاب المسلمة والرأي الآخر.
50- النظريات العلمية بين ميزان العقلية الإسلامية وميزان المثقفين الجدد.
51- القضاء في الإسلام.
52- العقل بين الإسلام وأهل الثقافة العصريين.
53- أصولنا الثقافية أمام الإشكالات.
54- رد الإفتراء عن أم المؤمنين والصحابة الطاهرين.
55- لماذا نخدع أنفسنا في التدخين.
56- التدخين كشف الحقيقة بوضوح.
57- المذهبية بين الحق والباطل.
58- عصمة الأنبياء وحقيقة قصة سيدنا يوسف عليه السلام.
59- لماذا تكتب في الخلافيات؟
60- الحجاب الإسلامي بين الفتاوى والاحتيال.
وكان عنده مشروعان في علم البلاغة:
أحدهما: قول أئمة العربية والدين في مجاز القرآن.
والآخر: موجز الإعجاز البياني في القرآن، ولم يكتملا.
من نشاطاته العلمية والدعوية:
*شارك -رحمه الله- في عدة مؤتمرات فقهية، وعلمية، وحلقات إذاعية، وتلفزيونية:
*شارك في مؤتمر القاضي عبدالوهاب المالكي في دار البحوث 3/ 2003 وكان رئيسًا في الجلسة الأخيرة نيابة عن الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر.
*شارك في مؤتمر الوقف الإسلامي في جامعة الإمارات عام 1998م.
*شارك في مؤتمر الدعوة الإسلامية في جامعة الشارقة.
*شارك في مؤتمر الاحتشام في جامعة الشارقة.
*عدة حلقات في برنامج المال في الإسلام على قناة CNBCعربية.
*مايقرب من مئة درس على قناة الشارقة وهي عبارة عن عدة سلاسل مثلًا: سلسلة أركان الإيمان، سلسلة إعجاز القرآن، سلسلة حلاوة الإيمان.
*(18) ندوة في برنامج: (الضاربون في الأرض) على قناة الاقتصادية.
*عدة حلقات علمية على قناة الدولية.
*عدة حلقات علمية على قناة نور دبي.
*عدة لقاءات إذاعية في عدة قنوات منها إذاعة القرآن الكريم في أبو ظبي بعنوان الإسلام دين الإنسانية.
*شارك في برامج المنتدى الإسلامي في الشارقة فكانت له محاضرات في العقيدة تزيد عن عشرين محاضرة؛ وقد أنهى في هذه المحاضرات تفسير سورة الفاتحة وجزء عم وتبارك وبعض الآيات من سورة البقرة. وكلها منشورة في الشبكة العالمية.

*شارك في المؤتمر الثالث حول الإمام (بديع الزمان سعيد النُورْسي) بدعوة من وقف الخيرات في إستانبول (إسطنبول) بتركيا؛ وعقد المؤتمر في مدينة قونيا، وكانت كلمة الدكتور محمود الزين بعنوان: طريق الآخرة في تراث الشيخ سعيد النورسي بديع الزمان.
*شارك بمحاضرة في جامع التوبة بدمشق وذلك بدعوة من الشيخ العلامة هشام البرهاني -رحمه الله- وكانت المحاضرة بعنوان: (العارف بالله السيد النبهان -قدس الله سره- نفحة من عبيره) وقد حضرها مدير الكلتاوية وجمع من العلماء.
مرضه وانتقاله:
عانى الشيخ محمود في حياته -رحمه الله- من أمراضٍ عديدة كالسكري والضغط والتهاب الكبد، ففي آخر حياته دخل المستشفى يوم 15 محرم 1434هـ/ الموافق 28 تشرين الثاني 2012م وكان ذلك بسبب نزيف في المريء الذي نتج عن إصابته بالتهاب الكبد الفيروسي وتليُّف الكبد ومكث فيه خمسة وأربعين يومًا وكان لا يكاد يستقر وضعه الصحي حتى يعاوده النزيف مرة أخرى.
ثم نقل - رحمه الله - إلى مستشفى في مصر لإجراء عملية زراعة الكبد ولكنه بعد ما وصل إلى مصر تفاقم النزيف حتى تطور إلى نزيف حاد في المعدة. لم يستطع الأطباء السيطرة عليه أو تعويض الدم المفقود. وبعد أن أمضى في المستشفى في مصر خمسة عشر يومًا انتقل إلى جوار ربه يوم الخميس ١٩ ربيع الأول 1434هــ الموافق 31 كانون الثاني 2013م.

دفنه:
ودُفن في القاهرة أمام الزاوية الوفائية، بمكان فيه علماءُ وأولياء كبار كسيدنا عبد الله بن أبي جمرة -رضي الله عنه- ؛ الذي قال: (لا يقف على قبري شقي) وبالقرب من ابن سيد الناس -رحمه الله-، وبالقرب من سيدنا ابن عطاء الله السكندري -رضي الله عنه-.
وقد دفن -رحمه الله تعالى- في هذا المكان استثناءً؛ لأنه يمنع الدفن فيها، وهذا كرم إلهي للشيخ محمود، رحمه الله.
رحمك الله سيدي، وأجزل لك المثوبة والعطاء وجعلك في المجلس الخاص مع سيدنا محمد النبهان -رضي الله عنه- في عالم الآخرة إن شاء الله.
في رثائه:
كتب الدكتور محمد فاروق النبهان:
«بلغني نبأ وفاة فضيلة الأخ العالم المتمكن الدكتور الشيخ محمود الزين أحد أعلام الكلتاوية وأحد أبرز علمائها.
وقد كان الفقيد -رحمه الله- متمكنًا من علمه، عاملًا به، وأسهم بجهد صادق في تكوين جيل من العلماء الذين يعترفون له بالفضل وحسن التعليم والإخلاص والاستقامة.
وإنني أقدم لأسرته أصدق العزاء والمواساة وأن يلهمهم الله الصبر.
وأقدم لأسرة الكلتاوية النبهانية في كل مكان التعازي والمواساة، وأدعو الله تعالى أن يتغمده برحمته الواسعة، وأن يجزيه أجزل الأجر والثواب على جهده وعطائه وإخلاصه، وإنا لله وإنا إليه راجعون».
وكتب فيه شيخه الأستاذ الدكتور محمود فجَّال، رحمه الله:
«رحمةُ الله عليك يا قُرّة العين يا محمود رحمةً واسعة، وأسكنك فسيح جنانه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إنّ فقيدنا الحبيب له ثلاثةُ مظاهر:
المظهر الأول: حينما كان على مقاعد الدرس في طلب العلم، والنهل منه، في رحاب الكلتاوية، العلمِ الباسق، والقلعةِ الشامخة، صاحبةِ العلمِ المدرار والفقه والأسرار.
وكان -رحمه الله- مثال الجدّ والمثابرة والأدب.
المظهر الثاني: بعد تخرّجه. كان صديقًا وفيًّا، فكانت لقاءاتُه متميّزة، يُتوِّجُه الأدبُ والوقار، النابعان من الإيمان العميق مع مَن صاحبَهم في المظهر الأول، فكان وفيًّا، رفيقًا، رقيقًا، أنيسًا، لا ظلَّ له، ممتثلًا، إذا قلت له: يا محمود. فَهِم ما يُراد منه.
المظهر الثالث: أضحى علمًا من أعلام الكلتاوية العظيمة، وعالمًا داعيًا، يخطُبُ، ويرعد ويُزبد، ويربّي ويُعلِّم ويحقّق ويدقّق، وهو الشيخ النابه، والدكتور المتميّز، والمحلّل البارع.
والذي أعجبني في أخي الحبيب الفقيد أنّه يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
وهو في المظاهر الثلاثة يُعامِلُ بما يمليه عليه الواقع، فلا يطغى عليه مظهرٌ على مظهر، ويتميّزُ بصفاء النفسِ وطهارة القلب، وبالكلمة الطيبة المحبّبة، وإذا تكلَّم يتكلّمُ على استحياءٍ بخفض الصوتِ، ويتحدّثُ بهدوءٍ تامٍّ.
ولقد رأيتُ بالفقيد الحبيب نظرتَهُ الثاقبة، وفطنته الواضحة التي يكللها الأدبُ، بل ما رأيتُ من الشيخ الجليل إلاّ الأدبَ الجمَّ في جميع مظاهره، أدبًا في الأقوال والأفعال، ونُصْحًا نابعًا من قلبٍ صافٍ مخلصٍ.
وأستطيع أن أقول: ما رأيتُ عليه شائبةً، لا في ريعان الشباب، ولا حينَ شبَّ وشاب، ونورُ وجهه ينبئُك عن مكنونات نفسه، وما يعتلجُ في خاطره، وما يجول في صدره، ولا ينبّئك مثل خبير.
لقد اتصل بي كعادته دائمًا، وهذا الاتصال هو الأخير، وأخبرني بأنّه سيسافر إلى مصر، دار الكنانة للعلاج، وليرقدَ في المستشفى، وهو يتجلبب بجلباب الخجل والأدب كعادته، لم يتغيّر فيه شيء منذ عرفته. فقلت: أستودعك الله الذي لا تضيع عنده الودائع، وبعد أيامٍ من سفره بلغنا النبأُ المحتوم لكل إنسان، فيا سعادةَ من لا يغفُل عن الله، وعن ذكر هاذم اللذات (كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ). فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ولا يسعني إلا أن أقولَ: فيا حسرتاهُ على أولئك الأخلاّء الأصفياء الأتقياء الأوفياء الأخفياء الذين هم على العهد باقون، صامدون، لا يتغيرون مهما التبست الأمور، وتباعدت الأماكن، واختلفت الرؤى.
محمودٌ هو المحمودُ، الزين هو الزين، الأخ هو الأخ، ما أنكرتُ منه شيئًا.
كانت تؤثّر فيه الإشارة أكثر من تأثير العبارة، والنظرة أقوى من العتاب.
فيا ليت طلاّب العلمِ وشيوخ المجتمع يجعلونه مثالًا لهم، وقدوة ينهلون من أدبه وخلقه، ويحفظون الوُدّ لأهل الوداد، الذي افتقدناه في هذه الأيام الحوالك، وافتقدنا المروءات في هذه الأزمات الصارمات.
مررتُ على المروءةِ وهي تبكي فقلتُ: عَلامَ تنتحبُ الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعًا دون خَلقِ الله ماتوا
وأخيرًا: أعزّي فيك نفسي يا حبيبي، يا محمود، يا زين الزين، لقد فقدت فيك أخًا مخلِصًا مخلَصًا.
وأعزّي ولدنا أخي الشيخ الصالح محمد بن محمود وباقي إخوته، وأوصيهم بحبّ بعضهم بعضًا، والحرص على طلب العلم، وأعزّي الأخ الدكتور حمزة الزين والشيخ يوسف والشيخ الدكتور محمد ربيع، وجميع آل الزين الأكارم، وأخصّ بالتعزية أخي العزيز الشيخ محمد جهاد عبيد سلمه الله، وأعزّي السادة آل نبهان في فقيد الكلتاوية، العلم الشامخ، وأخصّ بالتعزية الداعية الكبير الأستاذ الدكتور أبا عزّام محمد فاروق النبهان، والسيّد غسّان، والسيّد بشّار، وجميع طلاّبه، وأحبابه، والإخوان.
غفر الله لنا وله، وأسكنه أعلى جنان الخلد، مع النبيين والصديقين والشهداء.
وسلام عليك يا أخي يا حبيبي يا عيني سلامًا لا لقاءَ بعده في الدنيا، والملتقى هناك تحت لواء حبيبنا المحبوب صاحب اللواء المحمود، القائل: أنا لها، أنا لها صلى الله عليه وسلم.
نَمْ في أمان الله ورعايته ورحمته.
وسلامٌ عليكَ في الأولين والآخرين، وأستودعكَ الله. وإنا لله وإنا إليه راجعون».
أ.د. محمود بن يوسف فجّال 20 ربيع الأول 1434هـ .
قصيدة رثاء من الشيخ الدكتور حمزة أحمد الزين شقيق الدكتور محمود أحمد الزين رحمه الله:
هذه الكلمات نفثة مصدور أرثي بها أخي وأعزي نفسي والإسلام, وما تأخرت عن الكتابة إلا أني كنتُ وما زِلتُ في ذُهولٍ ممّاحَدَثَ, و لكنْ "إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا فَإِنَّ الْمُصَابِ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ " وعزاؤنا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم :" إذا أصابَ أحدَكُم مصيبةٌ فليذكرْ مُصابَه بي فإنها من أعظم المصائب " وإنا لله وإنا إليه راجعون,
( مصيبةٌ واسترجاع )
مصاب كان تخبئه الليالي*ففاجأني ولم يخطر ببالي
نعاه ليَ الطبيبُ فلم أصدقْ*معَ استرجاع قلبي وَ المقالِ
و أذهلني فقلتُ له عساه*يُقَاوِم مثلَ أيامٍ خــوالي
فقال صدقت لكنْ وعدُ ربي*يقيناً قد أتى رُغْمَ المِحال
و مازال الذهولُ عليّ يطغى* أحقاً مات محمود الرجال؟
فلو تُفْدَى الحتوف فديـتُ فحلاً*و لو جاز التبدّلُ كان حالي
أخِيْ محمودُ يافخرَ الرجال*مضيتَ كما السحابِ إلى الأعالي
سقيت الناس من علمٍ و فضلٍ*و مجدٍ لا يُدَانَى في الكمــال
تَخَطَفتِ المنُونُ أخا نزالٍ*وقد كان العزيــــزَ على النِزال
فلولا غيرُها لرآك ليثاً*و تَلقى كلَّ ليثِ لا تبـــــالي
وتخشــاك الخصوم وأنت حيٌّ*و بَعْـدَ الموتِ يرهبك التوالي
وبعد الموت تخشاك الليــالي*و يُبكيك المشـــايخ والموالي
فأنت النور في الظلمــا و بدرٌ *أنرتَ لنا المعالمَ للمعـــالي
إذا العلمـاءُ جمَعْـَـاً عوّضوني*لكنتَ عديلَهم إِذْ مـا بدا لي
فيـا قبراً حَوَيْتَ اليوم عِلْماً*و دُرّاً لا تطـــــاوله اللآلي
و ذا عَجَبٌ لقبـرٍ ضَمَّ شهمـاً*سما في عُمْره فوقَ الجبـال
وياقبراً حويت عفيفَ نفـــسٍ*يصلي لا يجلي في المجـال
فيا عيني أتـاك الحينُ فابكي*وهاتي النظم يــادمعي تعالي
لنبكي مــن يفوقُ على كُليب*ومــالك من نويرة في الأوالي
ونتركَ من بكت خنسا ورانـا*فصخرٌ ليس مثل أخي بحـــال
بكيتُ على أبيك وكنتَ سلوي*وبعدك لست عن ذكراك سـالي
ونبكي عـن عجوز ليس تدري*مصاباً حـل في داري وآلي
وكيف أقول للثكلى فَوَيْحي*و والهَفي ألـــــوفاً بالتوالي
فلو عَلِمتْ لماتت ليتَ شعري*نخبّيء دون هــذا في الليالي
فجودي بالدموع وأسعفيني*لنقضيَ واجبــاً فوق احتمالي
فيـا زيناً لآل الزين تمضي*وتذهـــب دون توديع الغوالي
تمـوت بغربة ولديك قلبٌ*حوى الأوطــان وَ هِيَ له ببال
فمتْ في أي أرض أنت ذخـرٌ*لهـا ؛ فالكل أرضك لا تبالي
وحيـداً في التراب وكنت حياً*وحيداً في المكارم والخصال
دُفنت بمصرنا لتكون جنبي*لأمر شاءه ربُ الفِعَــــال
لكي تبقى الزيارة ُكـل آنٍ*ويصحبني حبيب ثــم تال
رمـاني موتك الغالي بسهم*ثوى بين الجوانح بالنصـال
فكيفَ تطيب أيامي وتحلو *وأنتَ الحلو والطِيْـبُ الغوالي
زهدتَ وأنتَ لم تجمع لدنيا*وَ ورّثتَ المكارم والشَّمـال
قليلُ الضِّحْـك لا يهتزُّ إلا *لجزل عبـارة أو طيب قال
وكنتُ أعده لعُضالِ دهري *فسـابقني فمن يشفي سؤالي
خفيفُ الظل ما ملَّتْ ضيوفٌ *من الأسمار ساعاتٍ طوال
صدوقٌ لم يكذّبْه الأعادي *وبين الصحب موثوقُ المقال
و ليس يَشينه ذمٌّ و عَيْبٌ *إذا عُدّتْ ذنوبُ ذوي الفِعَـال
له وجـه ينير على سؤال*إذا كان السؤال من الثقـال
كريم النفس والأخلاق قَرْم*وشهوة نفسه طِيْبُ الخصال
فكيف العيش بعدك يا خليلي*وقد جلّ المصابُ على الغوالي
شقيق النفس كان إذا دعاني*راى نفساً تجيب بلا جدال
بكتك مدارسُ الشهبا وَ صَلَّتْ*عليك مدائن الدنيا وتال
لفقدك يندب العلم اصطبارا*على تحصيله رغم اعتلال
لقد كنا ندامى رغم بُعْدٍ *و كنتُ جليسَه رُغْمَ انشغالي
وشيخي كان بعد أبي ولكن*مصابي فيه قطّع لي حبالي
لقد فُجع الفؤادُ بفقد صَرْحٍ*إليه يؤل أصحاب النضال
فلن أنساك -يا محمودُ -عمري*وهل تُنسى و ذِكْرُك في خيالي؟
وهل تُنسى وأنت لنا نسيم*ونُذكَر إن ذُكــرتَ وذاك غال
يذكرني بمحمودٍ علومٌ*و صهوة منبر وصدى شمال
وأذكره إذا نظم القوافي*أخو الشعراء لا ينساه بالي
وإن نَظَم القريضَ سمعتَ كَعْبَـاً*و يُشجي في المقال أخا المقال
وإنْ كَتَبَ الكتـابَ لأجـل علم*لقلتُ الشافعي ولا أغـالي
وأذكـره إذا عبقــــت ورودٌ*وأذكره إذا ذكر الخوالي
فكم نمنا صغـارا في فـِراشٍ*نُذكّر بعضنــا حَدَث التوالي
ونمشي في الصبا إلى المعـــالي*سَويّا كاليدين بلا انفصال
ونلعب في الدروب ويفتديني*إذا طفلٌ عدا أو ساء حالي
كذاك حَيِيتُ يفْديني ويحمي*و دِرْعِي كان إِذْ خَطْبٌ عرا لي
فَمَنْ ذا اليوم يحميني ؟ فظهري*بدا يا ويح نفسي ما جرى لي
يشير عليَّ في كتبي ونظمي*يُسَرُّ مفاخراً بصلاح حالي
فلا والله لا يُسليه شيءٌ*سوى ربي الرحيم وذو الجلال
وهذا ما يعزيني وإني*لأمرِ الله راض في امتثال
ويسليني بأن يلقى كريماً*تقيٌّ لم يُدَنَّسْ بالخَطال
سقاك الله يا قبراً بمصرٍ*وكلَّ قبورنا من أجل غالي
إلى الله الكريم شكوتُ فقدا*وفي الله المثوبة في المآل
شقيقك الذي لا ينساك: حمزة أحمد الزين.
ورثاه صديقه الدكتور عثمان عمر المحمد فقال:
«بمزيد من الأسى والحزن والتسليم لقضاء الله وقدره ننعي لكم الفقيد الغالي والأخ المخلص فقيد حلب الشهباء الشيخ الدكتور العالم العامل محمود أحمد الزين صديق العمر الذي كان بالنسبة لي ملء السمع والبصر. رحمك الله يا أخي يا أبا محمد.
أقول كما قال الشاعر:
لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ وَلَزُرْتُ قَبَرْكَ والحبيبُ يُزارُ
تركتنا من غير وداع لو بكيت عليك دمًا ما وفيتك حق الأخوة.
صحبتك قرابة خمسين عامًا فما رأيت منك إلا الصدق، والنصح، والحب، والتواضع، خمس سنوات في طيبة الطيبة ولا يمر يوم إلا ونلتقي، نلتقي على النصح فلا تجامل أحدًا في مخالفة أبدًا.
قبل انتقالك بشهرين قلت لي: أنا وضّبت شنطتي (أي مغادر هذه الحياة) فقلت لك: هنيئًا لك السفر، وهنيئًا لك استعدادك للقاء الله.
تبعتك إلى مصر لألقي على وجهك نظرة وداع ولكن شاء القدر أن يُهال عليك التراب قبل وصولي بدقائق معدودة.
طبت حيًّا وميتًا يا أخي يا أبا محمد.
أسأل الله أن يجعلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الفردوس الأعلى، وأن ينزل عليك شآبيب رحمته.
أنا لم أفقد صديقًا بل فقدت نصفي فأسأل الله أن يرزقنا الصبر والسلوان وأن يعوض هذه الأمة في مصابها ونقول كما قال الحبيب المصطفى: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يسخط الرب إنا على فراقك يا أخي يا أبا محمد لمحزونون وحسبنا الله ونعم الوكيل».
ورثاه صديقه الشيخ عبد الجواد العاشق حفظه الله فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أكرمنا بمعرفة الشيخ العارف بالله السيد محمد أحمد النبهان.
دخلت إلى الكلتاوية طالبًا في العام الدراسي 1968-1969م وكان هذا الفوج الخامس للمدرسة، وكان معي تلاميذ نجباء أصبحوا فيما بعد نجومًا إن لم أقل أقمارًا، منهم أخونا الشيخ محمود أحمد الزين الذي كان أكبرنا جميعًا سنًّا بما يقارب /4/سنوات، ولذلك كان أكثرنا إدراكاً للأمور وفهمًا للمسائل.
فقد عُرف ومنذ البداية بفهمه الثاقب وعمله الدؤوب واهتمامه بدروسه فحاز الاحترام والتقدير عند الطلبة والمدرسين على السواء.
كان من أوائل الصف وغالبًا أولهم وكان المنافس الوحيد له الأخ عبدو العلي.
ومنذ أن كان طالبًا كان جديًّا، شديد التمسك بالاقتداء بالسيد النبهان، محبًّا للتوسع بالقراءة، قوي الحجة، سريع البديهة، أديبًا هادئًا في نقاشه.
قرأت معه ونحن في المدرسة شيئًا من حاشية البناني على جمع الجوامع، وشيئًا من المستصفى للغزالي، وأصول الفقه كاملًا للشيخ محمد أبو زهرة، وكان قد قرأ هو النظرات والعبرات للمنفلوطي عدة مرات، ويقصد منها التقوي في الأدب وقوة العبارة، وكان خطيبًا مشهورًا وهو في الطلب.
خطب في جامع الكلتاوية وهو لازال طالبًا في سنة /1972/. وكان الشيخ منير حداد خطيب الجامع قد ذهب إلى دمشق للتعزية في وفاة بعض العلماء من بيت الكتاني.
فكان ملخص خطبة الشيخ محمود عن سيرة العز بن عبد السلام ومقارنة بين موقف الناس تجاهه. في بلاد الشام وفي مصر.
وكان مطلع الخطبة: ما أسفت لشيء في حياتي أسفي على العلماء....
أكمل دراسته الجامعية في الأزهر الشريف كلية اللغة العربية وكان كثيرًا ما يكرر (من لم يتقن اللغة العربية لا يمكن أن يفهم القرآن والسنة).
سافر بعدها إلى السعودية وهناك أقام فترة في المدينة المنورة وبعد أن نال الشهادات العالية عاد إلى حلب إلى الكلتاوية ليكون فيها مدرسًا كبقية المدرسين ومديرها آنذاك الشيخ محمود حوت وهو الذي قد أشار عليّ بتلخيص كتاب حول أحاديث الأحكام من كتاب (المجموع) للنووي. وبعد أخذ ورد بيني وبينه وبين الشيخ محمود حوت استعنت بالله وبدأت بالعمل ملخصًا ومدرسًا للكتاب من سنة 1988- إلى سنة2005م.
جزى الله عنا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ماهو أهله.
وجزى عنا شيخنا ومربينا السيد النبهان ماهو أهله.
وجزى عنا الشيخ محمود الزين ماهو أهله.
كتبه عبد الجواد العاشق في/5/ ربيع الاول 1439 - 2017/11/23.
(فقيد العلم والعلماء الأخ الحبيب الغالي الشيخ محمود الزين)
بقلم أخيك الداعي لك بالرحمة والمغفرة محمود ناصر حوت.
بسم الله الرحمن الرحيم.
حمداً لإلهٍ يتفضل فيهب، ويسترد فيأجر، ويبقي الثواب، ويفني الحزن ،والصلاة والسلام على فقيد المسلمين الأول سيدنا محمد بن عبد الله-صلوات الله وسلامه عليه - وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
ففي غمرة الأحداث والكوارث التي تمر بها أمتنا، وفي وسط هذا البحر اللجي من النوازل والشدائد التي تجتاح عالمنا الإسلامي والعربي، وفي المرِّ والعلقمِ الذي تتجرعه بلادُ الشامِ عامةً، وحلب الشهباء خاصة، يأتي هذا المصابُ الجلل، وهذا الرزء الكبير الذي عصف بقلوبنا عصفاً، وأفصحت مواقع الانترنت عن مكنونها باثَّةً الخبر المفجع (رحل الشيخ محمود الزين) (ننعي لكم فضيلة الدكتور :محمود الزين )رحمه الله .
وانثنيت بيدي على كبدي خشية التصدع، وأنا في بلاد الغربة والسفر كما الآلاف والملايين من أبناء سورية الحبيبة, وكنت يومها راقداً على سرير المرض مهيض الجناح، كثير الجراح، تثعب جراحاتي دماً، ليس لها سواحل تنتهي إليها، وجاء هذا الجرح فوق تلك الجراح، فكان غائراً في الشغاف وحبة القلب، وبحلب الكبد فماذا عساي أن أداوي.. وأي جرح من المآسي أواسي ..وتذكرت حينها قول المتنبي:
رماني الدهر بالأرزاء حتى* فؤادي من غشاءٍ من نبال
فصرت إذا أصابتني سهامٌ* تكسرت النصال على النصال
يا دموعي أسعفيني يا دموعي!!
ألا من كانت لديه دموع غوال قد خبأها لخطب جلل فليسفحها اليوم على فقيدنا الراحل، فقيد العلم والعلماء الأخ الحبيب الغالي الشيخ محمود الزين، طيب الله ثراه.
ومعذرة إليك يا فقيدنا الراحل فنحن لا نملك إلا دموعنا نسفحها على جوانب رمسك الطاهر، وجدِثك الزاكي، وكأن القدر قد اختار رمسك في بلاد مصر حتى يفيض عليك النيل العظيم حزنًا وأسفًا.
هو العالم الكبير والمحقق النحرير، والباحث الدقيق، والشخصية والقامة العلمية، والجبل الأشم، -وأنا لاأبالغ في هذا- فالشيخ محمود الزين هو أحد الأفراد الذين تفتخر بهم المدرسة الكلتاوية، وأحد الرجال العظام الذين مروا في تاريخ هذا المعهد، يندر مثيله بين كل المتخرجين الذين تخرجوا في الكلتاوية وتابعوا دراساتهم، فأنا لاأعتقد أن هناك أحدًا يضاهيه في علمه ودقته، وهذا ماشهد له به شيوخنا على رأسهم شيخنا الشيخ علاء الدين علايا والشيخ محمود فجال والشيخ محمد لطفي وأساتذة الفقه بل وقبلهم سيدنا النبهان -رضي الله عنه- حين قال عن الشيخ محمود: أنا أربي رجالًا.
نشأة الفقيد العلمية:
في عام 1968م كانت ولادة الفقيد العلمية، والثقافية، والروحية حين أوى إلى كهف العلم والمعرفة إلى دار الإيمان دار السيد النبهان-قدس الله سره العزيز- تشرف بالدخول إلى دار نهضة العلوم الشرعية الكلتاوية النبهانية، وكان يومها في السادسة عشرة من عمره، حيث أشرف على تنشئته العلمية باقة فواحة من أساتذتنا الخلّص أبناء السيد العظيم - قدس الله سره - وكان في طليعتهم مدير المعهد الشيخ محمد لطفي رحمه الله، وفضيلة العلامة الجهبذ الدكتور محمود فجال رحمه الله، والشيخ العلامة الراحل الشيخ علاء الدين علايا، والعالم النحرير وصاحب الفضل الكبير أستاذنا العلامة الشيخ نذير حامد، وأستاذ الأجيال ومخرج الخطباء الشيخ حسان فرفوطي، والعلامة الفقيه الراحل الشيخ عبد الرحمن حوت، والشيخ العلامة المربي محمد أديب حسون، والشيخ الراحل صاحب الفضل في تعليم القرآن الكريم وتجويده وتحفيظه الشيخ بشير حداد، رحمهم الله، وغيرهم وغيرهم من أكابر العلماء والأصفياء، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، والله يشهد أنهم ما بدلوا تبديلًا.
ويجدر بي أن أنوه إلى أن فقيدنا الراحل الشيخ محمود الزين -رحمه الله- كان يترسم خطا أساتذته ومعلميه وخاصة أستاذه الذي كان له التأثير الأكبر من بين أساتذته جميعًا، ألا وهو أستاذنا وشيخنا فضيلة العلامة الدكتور محمود فجال -رحمه الله- حيث أقبل على توجيهه علميًّا وروحيًا، فكان فقيدنا يصاحبه في حلِّه وترحاله في صباحه ومسائه ويستشيره في الصغيرة والكبيرة, ومما زاد فقيدنا تعلقاً بالشيخ محمود فجال أن السيد النبهان -رضي الله عنه- أوصاه أن يصحبه ويأخذ بنصائحه وتوجيهاته، هذا ما أعلمه وما سمعته من فقيدنا رحمه الله.. وهذا الذي زاده تعلقًا بشيخنا ومربينا وسندنا العارف بالله غرة الدهر وشمس العصر مفجر ينبوع العلم والمعرفة، المنار الذي شع في حلب الشهباء، ليضيء من حوله شرقاً وغربًا إنه العارف بالله سيدي محمد النبهان رضي الله عنه.
وهكذا تكونت شخصية فقيدنا علميًّا وروحيًّا، ولست مبالغًا إذا قلتُ: إن الشيخ محمود الزين هو في الطليعة الأولى من خريجي دار النهضة العلوم الشرعية علمًا وفكرًا وثقافةً وروحًا.
فهو شاعر مِفَنّ، وكاتب مبدع، وخطيب مفلق، ومحاور قدير، وباحث ومحقق ومدقق قل نظيره.
لم ينس فقيدنا -رحمه الله- أن يؤدي واجبه تجاه البوتقة التي أنجبته، فعمل مدرسًا وموجهًا لعدة سنوات عديدة في معهده الذي تخرج منه، وكون بذلك مجموعة من طلاب العلم الأقوياء.
تربطني به علاقة وثيقة وصداقة حميمة دامت أكثر من أربعين سنة، فنحن نشأنا سويًّا منذ اللحظة الأولى في الكلتاوية، وعملنا معًا في التوجيه والتدريس، تربطني به ذكريات وسفر وحضر ونقاشات ومد وجزر و وفاق وخلافات وذلك في الحياة التي عشناها سويًّا في حلب.
كان -رحمه الله- من أبرز خطباء الكلتاوية ومتكلميها منذ أن كان طالبًا في الصف السابع تميز بالكتابة والتعبير الجميل والأدب الراقي والشعر والنثر.
والشيخ محمود معشره طيب، وصاحب تواضع جم، وصاحب أخلاق راقية، لانشعر بكلفة حين نجالس بعضنا البعض، وكان ثالثنا الشيخ عثمان العمر فكنا نحن الثلاثة قلبًا ورأيًا واحدًا في الأغلب على أنه لا يخلو الأمر من بعض الخلافات والنقاشات الحادة ، فكان -رحمه الله- أخًا ناصحًا والنية عنده هي الارتفاع والارتقاء بالطلاب لمستويات عالية، فالخلافات كانت لأجل الطلبة فهو كان يريد أن يشد على الطلبة أكثر لمصلحتهم والطالب متفرغ ليس له عمل آخر والمدرسة تصرف عليه الكثير.أما أنا فكنت أختار الوسط في الأمور، رفعنا مستوى الشدة لكن الشيخ محمود كان يريد أكثر حرصًا منه على مصلحة الطلاب.
سافرنا معاً إلى أماكن عديدة داخل وخارج سورية وكان يقول لي: أنا أتفق معك أكثر من غيرك.
إذا حدثته عن أهل الله وعن مربيه فتراه كأنه إنسان آخر فيتحول من عالم إلى عالم آخر، والشيخ محمود باحث عقلاني لايستسلم بسهولة لكن استسلامه لأهل الله والسيد يدل على أنه ذو عقل كبير وذو روح شفافة. فقلما تجد أحداً بهذا المستوى من الاعتقاد والتسليم ويأتي لك بالأدلة على ذلك.
كنت أقول له: سيدنا يقول: بنيت المدرسة لواحد ولعلك تكون أنت هذا الواحد.
ماجادت يد الكلتاوية بمثله علمًا وفهمًا وعمقًا وبحثًا ودقة في العلم.
أنا أقولها بصراحة: الكلتاوية تعتز وتفتخر بهذا العالم وبابنها البار.
روحاني شفاف صاحب دمعة غزيرة، فيها عاطفة ومحبة كبيرة لسيدنا رضي الله عنه.
ثم اضطرته الظروف -وياليته ماغادر- غادر إلى الإمارات، وكنا على صلة دائمة فيما بيننا إلى أن غادر الحياة.
موقفه من الأزمة السورية الحالية:
قبل أن أستطلع رأي فقيدنا في هذه الأزمة قلت لمن حولي من بداية هذه الأزمة: (إن رأي الشيخ محمود الزين لن يختلف معي شعرة واحدة لأننا ننطلق من مشكاة واحدة، فلقد كنت أرى له عقلًا كبيرًا رجوت أن لا يسلمه إلا إلى خير).
وكان الذي توقعته منه حيث كان ينظر إلى هذه الأزمة إلى أنها فتنة هوجاء ستحرق الأخضر واليابس، فكان يحذر منها، وينصح طلاب العلم حوله بالابتعاد عن شررها وشرورها، ولقد كلمني من هناك، وأبان لي موقفه، وبأنه ينطلق من منطلق الشرع الحنيف، ولن يحيد عنه يمنة ولا يسرة.
ولقد أعلمت فقيدنا الراحل بأننا في الكلتاوية معهدًا ومسجدًا دروسًا وخطبًا ومحاضرات ومجالس ندعو إلى حقن الدماء، وإننا بريئون من كل عمامة بيضاء فيها نقطة دم حمراء، فلقد طرحنا على منبر الكلتاوية مشروع التحكيم قبل أن تشتعل نار الفتنة فتحرق الأخضر واليابس، قبل أن تدمر سوريا وتخرب بيوتها وأبنيتها فوق ساكنيها، قبل أن تحرق مصانعها ومتاجرها وأسواقها، قبل أن تدمر مساجدها ومعاهدها، وقبل أن تيتم مئات الآلاف من أطفالها، وترمل عشرات الآلاف من نساءها، وقبل أن تدفن حضارتها في التراب، وقبل أن تسيل دماء أبنائها أنهاراً في شوارعها، وقبل أن تهجر الملايين من أبناءها.
لقد تمنيت لو أن الكلمة سُمِعت، وأن مشروع التحكيم قُبل، وأننا استمعنا إلى نداء العقل والضمير.
لقد صدحت وناديت وصرخت بقوة على منبر الكلتاوية: إنني أخاطب جميع الفئات المتحاربة إلى أن يستمعوا إلى نداء العقل والضمير، ويلقوا أسلحتهم، فلم أجد آذانًا صاغية ولا قلوبًا واعية.
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا* ولكن لا حياة فيمن تنادي
ونارٍ لو نفخت بها أنارت *ولكن أنت تنفخ في رمادِ
ولذلك ضاعت سوريا وضاع شعبها وذبحت من الوريد إلى الوريد.
أقول: لقد كان موقف فقيدنا الراحل رحمه الله معتدلًا منعزلًا عن كل مظاهر هذه الفتنة الهوجاء، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مستوى الوعي الكبير، وبعد النظر الذي كان يتصف به فقيدنا، فلحق بربه راضيًا مرضيًا، وأجاب داعي الرحمن طاهرًا نقيًّا دون أن تتلوث عمامته البيضاء بقطرة من الدماء، وكذلك كل عمامة صوفية نبهانية، أما العمائم الحمراء القانية فأولى بها أن تكون شعارًا للجزارين القساة فليعتجروها.
ولذلك: فإنني أدعو طلاب العلم في الخليج وشعب سوريا في كل مكان أن يجعلوا من موقف الفقيد الراحل نبراسًا لهم حتى لا يؤدي بهم ذلك إلى مزيد من ضياع العباد وخراب البلاد.
رحمك الله يا أخي يا شيخ محمود، وأجزل لك المثوبة والعطاء والنور، فلقد فقدنا فيك أخًا ناصحًا، صديقًا حميمًا، ورفيقًا رحيمًا.
والله ثم والله إن في الحلق لغصة، ومن وراء الصدر نفثات كاوية ما كان أسعدني أن أبثها وأشرحها ولكن فلتحبس النار في الأعماق، فلربما اتخذت منها قبسًا ينير لي الطريق أو أجد على النار هدى.
وكانت في حياتك لي عظاتٌ وأنت اليوم أوعظ منك حيًّا.اهـ.
وقال تلميذه الدكتور عبد السميع الأحمد في التأبين الذي أقيم له في دولة الكويت:
أيْ فؤادي هل جانبتك الجدودُ*منذ أنقيت أم دهاك حسودُ
كلَّ يوم لنا عزيز يُسجّى*ودموعي على العزيز شهود
وبلادي تَضِجّ فيها المنايا*و ورودي عفّى عليها الجليد
نَسَمَات الربيع أضحت جحيما*يتلظى، وفي الغيوث جحود
من نُعَزِي وكلُّ بيت حزينٌ*فيه ناءٍ أو ثاكلٌ أو شهيد
يا فؤادي وكيف يرقأ دمعي*وصغاري ضاقت عليها اللحود
عَمرَك الله.. كم تُجالد خطباً*فوق خطب، والنائبات قعود
يا خليلي وأنت في الحزن مثلي*جَمَعَتنَا الخطوب والتنكيد
رحل اليوم شيخنا وهو ناءٍ*فتناءى عن الجسوم الهجود
وعيونُ الأحباب أضحت مِراضا*واحتواها التعكير والتسهيد
أيُّ نجمٍ تَرَجّلَ اليوم في قمة*النور وهو المكرم المحمود
فارس العلم والفصاحة صناجة*الشعر وِرْدُهُ المورود
ألمعي الأشياخ ذو النظرِ الثاقبِ*والفكرِ الذي لا يحيد
حازم حاسم أَبَيٌّ أَنُوْفٌ*عالِمٌ عاملٌ سريّ سديد
تختشيه العيون خشية حُبٍّ*وتَرِقُّ القلوب حين يجود
يستفزّ الأسماع حين يصدع*هدّاراً وتستبدّ الرعود
فإذا أسلس القصيد تهادى*لك منه الجلمود والأملود
يا فؤادي وأنت في الحب صَبٌّ*تتهادى إذا تورّد عود
كيف تصفو لك الحياة وفيها*كلَّ يومٍ يَغيب نجمٌ جديد
إنها سنة الحياة ولكنْ*لِفراقِ الأحبابِ وَقْعٌ شديد
ورثاه تلميذه الشيخ جاسم العمر فقال:
(العلامة الجهبذ الدكتور الشيخ محمود الزين)
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهمّ عن سيدي ونور قلبي سيدي محمد النبهان، وعن عباد الله الصالحين.
أما بعد: فقد كان أستاذنا العلامة الجهبذ الدكتور الشيخ محمود الزين - رحمه الله تعالى رحمة واسعة- نعم العالم ونعم الأستاذ، دَرَّسَنَا الأصولَ و النحوَ في دار نهضة العلوم الشرعية (الكلتاوية).
فمما درّسه لنا (شرح الإمام المحلي على الورقات) للإمام الجويني رحمة الله عليهما، ثم (غاية الوصول شرح لب الأصول) كلاهما لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى، و درّسَ لمن قبلنا ( جمع الجوامع ) للتاج السبكي رحمه الله، و درّسنا في النحو قواعد استخرجها من متن الآجرومية، ثمّ بعد ذلك (شرح قطر الندى وبل الصدى) لابن هشام رحمه الله تعالى.
وفي إحدى السنوات كانت له في الأسبوع حصة تسمّى (ثقافة إسلامية) سؤال مفتوح سل عما تشاء، كانت تتمحور غالبًا في الردود على الوهابية وبعض الفرق، وعن التشويهات التي ألحقت وزُوِّرَتْ في تاريخ الأمة الحديث و المعاصر.
واذا أردتُ أن أصفه - رحمه الله - أقول: إنه تميز من بين أساتذتنا -وكلهم أجلاء عظماء رضي الله عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم- تميَّزَ بأنه كان سيد المحاكمات العقلية، فقد كان يهتمُّ بالعقل اهتمامًا كبيرًا، و بوسائل الإقناع، فكان صاحب حجةٍ دامغةٍ، و دليلٍ مفحمٍ، و جوابٍ مُسْكِتٍ.
و كان أستاذنا الأجلُّ -مديرُ دار نهضة العلوم الشرعيّة فضيلة الشيخ محمود الحوت حفظه الله وأطال عمره مع تمام الصحة والعافية والعمل الصالح- يحرص أن يكون أستاذنا الشيخ محمود الزين موجودًا وحاضرًا حيث يدور النقاش مع بعض من يأتي إلى المدرسة، و كان مديرنا - حفظه الله - يقول: اسألوه واستفيدوا منه.
أذكر مرة سَأَلَنَا في الصف فقال لنا: لَوْ أراد واحدٌ منكم أن يخطب عن الحجاب ماذا يقول؟
قلنا: نأتي بالآيات والأحاديثِ.
فقال: لا؛ لابُدَّ أنْ تُقْنِعَ مَنْ يسمعك بضرورة الحجاب حتى لو لم يكن متدينًا، ثمَّ عرض علينا تسلسل الأفكار في خطبةٍ له خطبها عن (الحجاب) في (جامع الرحمن) بحلب، فواللهِ لو سمعه اليهودُ و النصارى لدانوا لسلطانِ حُجته واقتنعوا بأنَّ حجاب المرأة ضرورةٌ إنسانيةٌ قبل أن يكونَ فريضةً ربانيةً.
مرَّةً سألتُه: أحيانًا في الإجازة نلتقي ببعض المشايخ ونحرج في الذهاب الى مساجدهم فقال: إذا ذهبتَ خُذْ عقلك معك.
كان في درسه -رحمه الله- يفكُّ العبارة فكًّا، و يفصفصها فصفصةً، ولا يرتضي أن يشرح الأستاذ المعنى العام للعبارة، و يعيب من يفعل ذلك، فقد كان آية في دقته.
و إذا رأيتَه فلا تراه إلا و في ذهنه مسائلُ علميةٌ يحققها ويريد أن يصل إلى قرارها.
زرته مرة في بيته في حلب و قَدْ جاء إجازةً من الإمارات فأعطاني بعض ما كتبه من كتب في الرد على الوهابية، ثُمَّ حَدَّثَ عن مسألةٍ يبحثها في المصطلح اختلف فيها رأي الإمامين ابنِ الصلاح والنووي -رحمهما الله تعالى- و هي خبر الآحاد هل يفيد العلم أو القطع أو حول تفصيلات هذه المسألة وما يحتف بها من قرائن.
كان - رحمه الله - متفانيًا في العلم. أخبرنا أنَّه قرأ ديوانًا كاملا لأحد الشعراء ممن يحتج بشعره، فحَصَلَ على شاهدٍ واحدٍ ممَّا يريد أن يكتبه في إحدى رسالتيه للماجستير أو الدكتوراه.
قال مرة: يا ليتني حفظت (المنهاج) للنووي في الفقه الشافعي، ولو أنني حفظت كل يوم صفحة واحدة لحفظته من غير مشقة، ثم أمرني بحفظه رحمه الله ورضي عنه.
وكان - رحمه الله - متثبتًا في العلم لايُلْقِيْ الكلامَ على عواهنه؛ فقد يتريث في مسألةٍ بسيطةٍ لم يحضره جوابها تعظيماً لِشَأْن العلم، وهكذا يريد من طلابه.
مرّةً قال لنا في الصف: البارحة سألني شخص عن سيارة أصابت كبشًا فقطعت أليته أو شيئًا من لحمه والكبش حي هل تؤكل هذه القطعة؟ فقلت له: أمهلني حتى أراجع المسألة. فقال له أحدُ الطلَّاب: أستاذ! هذا سؤالٌ سهلٌ؛ في (متن أبي شجاع) الذي حفظناه في الصف الأول يقول: (وماقطع من حي فهو ميت). فقال: صحيح لكنها غابت عني.
وكان -رحمه الله- لا يجامل أحدًا في العلم فيما يراه صوابًا.
حصل أنه في درس القراءة الذي كان يدرّسُه أستاذنا الشيخ حسان فرفوطي أبو طاهر -رحمه الله تعالى و رضي عنه- في قصة إسلام سعد بن معاذ رضي الله عنه عبارة ( أو تجلس فتسمع فإن رأيتَ خيراً قبلته و إلا كففنا عنكَ ماتكره) حصل الإشكال عند حركة الواو في ( أو ) فكان رأي الشيخ أبي طاهر أنها بالفتح، و رأي الشيخ الزين أنها بالسكون لأنَّها حرفُ عطفٍ مثل غيرها. والشيخ حسان - رحمه الله - كما هو أستاذنا هو أيضًا كان أستاذا للشيخ محمود الزين. فهذا المثال البسيط يعطينا تصوُّرًا عن الشيخ رحمه الله أنه كان حر التفكير، لايقلّد أحداً في مسألةٍ مالم يقتنع بذلك.
وتعدَّى هذا الأمر المسائلَ العلميةَ إلى باقي شؤون الحياة قال لنا مرة في الصف: إن الناس تأكل السبانخ و السلق بعد أن تعصر ماءه وتلقيه. قال: و معظم الفائدة هي في مائه فأنا أحبُّ أن آكله بمائه من غير عصر. فقلنا ممازحين: يا أستاذ! الناسُ تضحك علينا. فقال: مالك وللناس. فلم يكن لما عليه الناس من عادات وأعراف عنده قيمة إلا إذا شهد له شاهدٌ من علمٍ أو عقلٍ.
كان - رحمه الله - على النهج النبهاني، يغار على هذه المرتبة من الأدعياء أدعياء المشيخة، و يقول عنهم: إنَّ المدّعي صغيرٌ جدًّا، ويلبس ثوباً واسعاً فضفاضاً و كبيراً جداً، فكان رحمه تعالى يعرّي هؤلاءِ المدَّعين مما تردوه بغير حق حتَّى لا ينخدع الطلاب بهم سواء كان هؤلاء المدعون ممَّن يظهر النسبة لسيدنا رضي الله عنه، أو ممن يظهر النسبة للشيخ الهاشمي رضي الله عنه، أو لغيرهما. وَكان يقول: أخشى على مَنْ يسلِّم لهؤلاء الكذابين، ثم يتبين حقيقتَهم لا أن يترك الطريق فقط أو يكفر بكل شيخ بل أخشى أن يخرج من الإسلام، ولعلّ هذا هو السر وراء هجومه اللاذع والمتواصل على المدعين.
كانت عقيدته بسيدنا النبهان رضي الله عنه لا حدود لها.
وكان - رحمه الله تعالى - لا يحبُّ التكلف في شيء، وينهانا عن التكلف ؛ ويحدثنا عن الوليمة الأصفهانية.
كان فقده -رحمه الله-خسارةً عظيمةً للأمة الإسلامية قاطبةً، ومصيبةً كبيرةً على العلم والعلماء، وأمثالُه - والله – قليلٌ.
ونسألُ الله أنْ يعوِّضَ الأمة الإسلامية خيرًا، وجزى الله خيراً مَنْ عَلَّمَهُ وربَّاه، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ورثاه تلميذه الدكتور محمد نور العلي في النادي الثقافي العربي في الشارقة بتاريخ يوم الأحد 3 شباط 2013م قال:
جمــالٌ في جـلالٍ في كمالِ*عُلوّ في الشمائل والخصــال
فذا محمــودُ يا عبِق السجايا*وذا محمـــود يا زين الفعال
وذا محمـود يا أُفقـا تعالى*وذا محمـــود يا فَيءَ الظـلال
وذا محمود مبسمــه أقاحٍ*بَهِيِّ الطَّـلِّ كالسِحْر الحـلال
حباه الله- جلّ الله- أُنسـا*ولطفـا في الدَّماثـة والخـلال
أيا من كــان للأخلاق أهلا*أيا من كان في العـلياء عالي
وكان النُبْلَ في الدنيا حكيما*رصيـنَ الفكر يا ثَقِفَ المقــال
ويثرينـا طـوالَ العُمْر عِلْما*شبيــه الغيث والمــاء الزلال
وتوجيهـاته المثلـى حقيـقا*لفعل الخيــر آياتُ الجمـال
دعاه لقربه الرحمن حبـا*فراح إليــــه يَرْفُــلُ بالوصال
وَ تختلـــجُ القلــوب لذكر فقْـدٍ*وتنتثر الحُزانة كالرمال
ولكـنّ الهمــوم مُفَرّجات*بفضل اللـــه موصوف الجلال
وبعــدَ الغَيْثِ يعقبــه ربيـعٌ*وبعد الشمس أقمار الليالـي
سألت اللـه أن يبقيْك رُوْحا*وذكْـرا طيبّا فـي كل حال
ويجعلَ قبرَكَ الخلّاقُ مِسْـكَا*ونورا كالقناديـل اللآلــي
أيا محمودُ مالك من سَمِـيٍّ*وَ مالكَ في المحبَّـةِ مِن مثال
وكتب في رثائه تلميذه الدكتور ياسر يوسف:
(الدكتور محمود الزين بنيان قوم تهدما)
«أي صوت مجلجل سكت، وأي شلال هادر توقف، وأي نبع عذب غاض، وأي نبت مزهر صوح، وأي ركن جليل ساخ، وأي فارس فاتكٍ ترجل!
بهذه الكلمات المؤثرة نعى الدكتور محمود الطناحي محموده علامة العربية أبا فهر محمود محمد شاكر -رحمهما الله تعالى- ورثاه وبكاه في مقالة ضافية وافية، واسمحوا لي أن أقتبسها هنا لأنعي بها محمودنا (الدكتور محمود أحمد الزين، رحمه الله تعالى) الذي انتقل إلى جوار ربه صباح يوم الخميس 31 كانون الثاني 2013م، بعد أن ترك بعده قلوبًا موجعة، وعيونًا دامعة، وأكبادًا حرى، ونفوسًا لا تفتأ تذكره وتبكيه، وتتحسر على فراقه، ولا تكاد تصدق أن هذا الكبير المهاب أمسى رهين التراب وشهيد الغربة، ولعل عزاءها أنه جاور الشافعي وشيخ الإسلام أبا يحيى زكريا الأنصاري، الذي أمضى كثيرًا من حياته التدريسية يدرس كتبه ويقرر كلامه. رحم الله الجميع.
جسد لفف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
من يعرف قيمة هذا الرجل العلمية والفكرية والاجتماعية يعذرني ويعذر كل من رثاه وبكاه بقصيدة أو مقالة، وأن ذلك ليس صوفية مغالية ولا إطراء زائدًا ولا مديحًا باطلًا، بل هو الحق والصدق والواقع، فضلًا عن أنه جزء من وفاء التلميذ لأستاذه، واعترافًا وإقرارًا بالفضل، وذلك أضعف الوفاء، فالعذل هاهنا غير وارد واللوم ليس مسموحًا به.
في ذهني الكثير من الحوادث والحكايات والأفكار التي ارتسمت عبر مرحلة الطلب في دار نهضة العلوم الشرعية –حفظها الله– حيث كان الدكتور محمود الزين -رحمه الله تعالى- يسقينا كؤوس العلم الدهاق، ويدير عقولنا على طريقة التفكير السليمة، ويصرفها عن الجمود على الحرف، ويأبى عليها التقليد، ويحثها على البحث والجد والكد في سبيل الحصول على المعلومة الصحيحة والحقيقة الواضحة والصواب البين والحق الأبلج.
كان -رحمه الله تعالى- ذا طريقة خاصة في التعليم، وهي طريقة فريدة تعتمد على حل العبارة المعروضة، وقراءتها بعين النقد، وبخاصة إذا كانت عبارة معاصرة لكاتب معاصر فإنه يفندها تفنيدًا ويقتلها تحليلً،ا وينقدها بكل رقي، ولا يكتفي بذلك بل كان كثيرًا ما يسوق عبارات الأقدمين المتواردة في نفس الموضوع، ويريك الفرق بين العبارتين من حيث السبك والرصانة والقوة والإحاطة بالمعنى وأداء المقصود.
على أن تلك الطريقة كان يخالطها شيء من الشدة، تلك الشدة والغلظة التي أفادتنا كثيرًا –على الرغم من امتعاضنا منها– وأكسبتنا قوة، ومنحتنا إقدامًا وجرأة ومنعة في المجالس والمحافل، كونها جعلتنا نقف على أرضية علمية لا بأس بها صلابة وتماسكًا واحتشادًا من علوم الأدوات، والفضل كل الفضل في ذلك لله، ثم للدار عمومًا، ثم لفقيدنا العظيم.
في آخر مرة رأيته فيها -رحمه الله تعالى- بعد درس سيدنا النبهان يوم الأحد عصرًا عام 2009م.. حيث وقفت معه برفقة بعض الطلبة، ورحنا نسأله بعض ما يعتلج في صدورنا من مسائل العلم والحياة حتى تطرق بالحديث إلى طريقة التدريس التي يعتمدها وينتصر لها ولا زال مصرًّا عليها، وبدا عليه التألم من المستوى الذي انحدرت إليه بعض المدارس الشرعية في حلب وبالأخص في علم العربية، وكان من جملة ما قال: الشدة تصنع الرجال، والشدة التي كنا ننتهجها تظهر آثارها فيمن كان من طلبتنا اليوم، وأتى بمثال على ذلك فقال: من كان يكتب لي في الكلتاوية في ورقة الامتحان في إعراب كلمة ( مضى): فعل ماض مبني على الفتحة أشطب له إجابته وأحذف له علامة وأنقص له درجة، فصاح أحد الواقفين من الطلبة الجدد وقال: أوه. لِمَ؟! فضحك -رحمه الله- وقال: لأنه لم يوضح هل هي فتحة مقدرة أو ظاهرة.
ثم شرع يحدثنا عن الكتيبات التي نشرها في دار البحوث في دبي ككتابه (البيان النبوي عــن فضل الاحتفال بمولد النبي ﷺ)، و(صلاة التراويح)، و(التوسل) وغيرها. وذكر أن الواحدة منها كانت تستهلك من وقته أربعة أشهر. وأنا أقول: من يقرأ هذه الكتب يدرك أن أربعة أشهر وقت قياسي لكتابة مثلها، فضلًا عن أنها تحتاج إلى عقلية كعقلية الزين وفكرًا محلقًا كفكر هذا المفكر الكبير. وظل يحدثنا زمنًا ليس باليسير إلى أن أتى الشيخ عبد المنعم سالم -أطال الله في العافية بقاءه – وكانت بينهما توأمة روحية واضحة- فاختطفه منا.
ذات يوم قال – في خضم أحداث البوسنة والهرسك ومآسي كوسوفو-: يا بني إن ما يجري في البلقان أنتم سببه. قلنا: كيف؟! قال: لو حفظتم قطر الندى لاستنقذتم إخوانكم مما هم فيه. فعجبنا، ولما طلبنا الاستيضاح قال: لأنكم لو حفظتم القطر لقويت لغتكم، وإذا قويت أثرتم في الناس، وإذا أثرتم فيهم سرت القوة إلى سائر المسلمين، فكانوا قوة لا تغلب بحال من الأحوال.
هذه بعض المواقف سقتها لحضراتكم من حياة هذا العظيم.
ورثاه تلميذه الشيخ محمود الخليف فقال:
إنا لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمك الله يا أستاذ الأجيال، وأعلمَ الأعلام.
لا الصبر عنه يعزّينا ولا الجزعُ
|
|
ولا التجلد مغنينا.. ولا الفزع
|
مصائبُ الموت كالتقليدِ في نَسَقٍ
|
|
أما مصيبتنا هذي فتُخترع
|
يا ضربة الموت ما باليتِ أن تقعي
|
|
على امرئ فيه بنيان لنا يقع
|
على الذي كان حصن الضاد يمنعها
|
|
إذا لم تجد صدر حر فيه تمتنع
|
محمود لو قلت في إنسانه ملك
|
|
لكان حسبك منه الطهر والورع
|
يقولون حصنٌ.. ثم تأبى نفوسهم
|
|
وكيف بحصن.. والجبال جُنوح
|
ولم تلفظ الأرضُ القبورَ.. ولم يزل
|
|
أديم السماء.. والنجوم صحيح
|
فعمّا قليل ثم جاشَ نعيّه
|
|
فبات نَدِيّ القوم وهو ينوح
|
(الشعر للرافعي يرثي أحمد تيمور)
لا أجد ما أقوله في مقامي هذا في ساعتي هذه خيرًا مما قاله أبو فهر في شيخه الرافعي: «رحمة الله عليه، لقد شارك الأوائل عقولهم بفكره ونزع إليهم بحنينه ثم صار إلى أن أصبح ميراثا نتوارثه وأدبا نتدارسه وحنانا نأوي إليه رحمة الله عليه».
وقول الشاعر:
سلكت بك العرب السبيل إلى العلا
|
|
حتى إذا سبق الردى بك حاروا
|
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة
|
|
أثنى عليها السهل والأوعار
|
(الشعر لمسلم بن الوليد)
اللهم ارحمه.. وأكرم نزله.. وأحسن وفادته.. واجبر مصيبتنا به.
اللهم اجزه عنا خير الجزاء.
اللهم اجزه عنا خيرا كثيرا.
فما لنا اليومَ ولا للعلا
|
|
من بعده غير الأسَى والنَّحيب
|
(الدكتور الزين وسرُّ العظمة)
رحم الله الدكتور محمود الزين رحمة واسعة.
كان سبب تميزه وتفرده أنه أخذ نفسه بالجد في التحصيل.. وان قد رُزق همة عالية لا ترضى بسفساف الأمور.
وكان لا يرضيه ولا يروي ظمأه وينقع غلته إلا التمحيص والتدقيق والبحث عن الحقيقة بحس مشوق، ونفس طُلَعة، وعقل متيقظ ضابط.
من صور إتقانه وتدقيقه أنه قرر علينا في أصول الفقه كتاب شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي. واسمه «نهاية السول شرح منهاج الأصول».
لما أخبرنا باسم الكتاب قلنا له: هذا كتاب للأسنوي بفتح الألف. فقال: الإسنوي بالكسر هو الأصح وهو المشهور بين أهل العلم. ثم قال: أين القاموس للمجد؟ وجيء بالقاموس وفتحنا على مادة الكلمة فوجدنا المجد يذكر أن الإسنوي منسوب لبلدة إسنا، وألفها تنطق بالفتح والكسر ولكن أهل تلك البلاد ينطقونها بالكسر.
رحمه الله كان يدلنا على منابع العلم الصحيحة، وهذا منبع منها، وهو أن القاموس المحيط للمجد هو مصدر من مصادر ضبط الأسماء والأعلام مثل كتاب الأسماء واللغات للنووي. رحمهم الله جميعا. هذه صورة من أبسط صور إتقانه وإحسانه..
رحمه الله كان خبر موته ورحيله كالصاعقة، وكان حالنا كحال النابغة لما أتاه خبر موت حصن:
يقولون حصنٌ.. ثم تأبى نفوسهم
|
|
وكيف بحصن.. والجبال جُنوح
|
ولم تلفظ الأرضُ القبورَ.. ولم يزل
|
|
أديم السماء.. والنجوم صحيح
|
فعمّا قليل ثم جاشَ نعيّه
|
|
فبات نَدِيّ القوم وهو ينوح
|
ورثاه ابنه الشيخ محمد محمود الزين:
أرجاءَ مصرَ وأرضَها ماذا جرى؟ مالي أراكِ على هدوء تطبقينْ
قولي بربكِ أي شيء غيرَ ما قد تعلمين عن الحبيب وتُنْكِرِينْ
قالت تَصَّبرْ واحتسبْه مَسَـلِّمَاً هذا قضاءُ الله شأنُ السابقينْ
سكتت وفي عبَرَاتِها حزْنٌ فما تقوى على إسكاتِ دمعِ المقلتينْ
قالت مضى محمودُ يقصِد ربَّه في قلبه شوق لرب العالمينْ
يا مِصرُ إن خيالَه في خاطِري. لا زلت أسمعه يحدِّث في يقينْ
أَوَلن نراه ونستنيرُ بوجهِهِ؟ أَوَلن نلبي صوتَه في كل حينْ؟
يا حسرَتَاه على حبيب قد مضى فطرَ الفؤادَ رحيلُه يا سامعينْ.
ضُمِّيهِ يا مصرُ الحبيبةُ إنه قد كان يسعَى فيكِ بين المُصلحينْ
رِفقا به أرجوكِ إن عظامَه تعبَت من الشكوى على مَرِّ السِّنينْ
وتَلَمَّسي أطرافَه قُولي له أن الحيَاة بدونه ليست تلينْ
تِيهِي به يا مِصرُ عزاً وافخَري هذا إمامٌ من زمان الزاهدينْ
ليثٌ إذا ما رمتِ موقفَ عزةِِ ثَبْتَ الخُطَى لا يستكينُ ولا يهينْ.
علمْتَنًا أن الرجال مواقفٌ إن زلَّتِ الأقدام أو ضَعُفَ اليقينْ.
رُحمَاك يا رب العبادِ بوالدي اغفر له وارحمه بين الأولينْ
ورثاه تلميذه الدكتور عبد الملك العلي فقال:
ما للكواكب في التراب تغور* إني من التُرْب الطهورِ غيور
قالوا تَرَجَّلَ قلتُ أكرمُ فارسٍ*في دولة العلم الشريف أمير
وَ هَمَتْ من المقل المراض مدامع* تقضي الحقوق وبعضهن كبير
وأخط من دمعي سطور قصيدتي* والشعر في شرع الكرام شعور
ما بال هذا الحزن يضرب بالحشا* لا يستكين كأنه موتور
الأرض جللها الأسى بفراقه* أما السماء فبهجة وسرور
الله طهَّره وأعلى قدره*ومن السقام براءة وطهور
قضّى لياليه يصابر داءه* بقضاء رب العالمين صبور
ومضى يلبي دعوة من ربه* البِشْرُ مِلْءُ جبينه والنور
في روضة النبهان أينع عوده* كاساتِ تحصيل العلوم يُدير
عَشِقَ الوصالَ مع الكتاب و إنّه* في وصل مملكة الكتاب جسور
كم في عوالمه أَجَدَّ مسافرا* أما الرواحل نكتة وسطور
حتى دنت من راحتيه قطوفه* وهوى بنَيِّرِ نوره الديجور
أما القصور فلا قصور بعلمه* وله من النكت الملاح قصور
ما زلت أذكره يُرَدِّدُ درسه* ملء الأحبة طلة وحضور
كم فلتة في العلم أطلق أمرها* ويتيمة حازت به التوقير
كنا نسافر في مفازة علمه* ونسير في التطواف حيث يسير
ماذا أقول وفي فمي ماء وفي* عنقي حقوق والقضاء عسير
إن خانني شعري فمثلك عاذر * ألا يحيط بقدره التصوير
حسبي بقدرك أن أقول وأكتفي* رجل قضى في النيرات كبير
مصادر الترجمة:
*جلسات خاصة لي مع الدكتور محمود الزين -رحمه الله- بَدَأَتْ من عام 2007م إلى تاريخ 22 تشرين الثاني 2012م، ومنها ماهو مسجل.
*أولاده: الشيخ محمد، والشيخ أحمد، مراسلة كتابية.
ملفات مسموعة:
*كلمة للشيخ محمود الزين عن سيدنا النبهان.
*كلمة وهو طالب في الكلتاوية في حفل تخريج فوج72-73.
* قصيدة للشيخ هشام الألوسي في رثاء د محمود الزين.
* اللقاء مع الدكتور محمد أبو موسى وقال لم يكتب في بابه أفضل منه الشيخ هشام.
* كلمة عنه للدكتور أحمد نور سيف.
*كلمة عنه للدكتور أحمد عبد العزيز الحداد.
*كلمة عنه كلمة للشيخ يوسف الزين.
تابع:
صفحة يعرض فيها تراث الشيخ الدكتور محمود الزين رحمه الله.
مجموعة كتب وأبحاث للشيخ الدكتور محمود الزين رحمه الله.
مجموعة خطب ودروس للشيخ الدكتور محمود الزين رحمه الله.
انظر كتاب «الدرر الحسان في تراجم أصحاب السيد النبهان» (ج 2 صفحة 221).
نشر في موقع أحباب الكلتاوية بتاريخ 9-3-2022م.