صنيع الابتلاء
قال تعالى : آلم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ العنكبوت 1-3] وقال عليه الصلاة والسلام: إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه (1) وسئل صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل (2)
وقال سيّدنا النّبهان رضي الله عنه :
- أنا سروري في ابتلائي، وأحب أن أخدم من يؤذيني، أنا لا أتحامل على ذاته، أتحامل على جهله، العالم كلّه خلق الله، فلا تقسَ قلوبكم على أحد .
- أنا طالب من ربي كل من يؤذيني أن لا يؤذيه الحق وأن يرده إليه، والله أريد أن أخدمه .
- أنا لا أرضى لأحد أن يشقى بسببي أبداً أبداً أبداً .
- لا يؤذيني إلا الجاهل الشقيّ، فأنا أدعو له حتى أكون سبب سعادته .
- الّذي يمدحني أو يذمّني ما جاءني شيء من المدح ولا من الذم .
- آخر الأسماء الإلهية التي تخلقتُ بها اسمان الصبور والحليم .
- أنا لا أشهد الدنيا والآخرة غير ابتلاءات .
- الابتلاءات : هي كمالاتنا إِنا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا، لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [ الكهف 7.
ذلك شأن الوارث المحمّدي لا يغضب لنفسه ولا ينتقم، بل يحسن لمن أساء إليه، وبلغت به السعة والرحمة حدّاً مدهشاً، حتى إنه إذا سمع عن شخص يذمه يبتسم
ويقول رضي الله عنه :أنا معه على النّبهاني الّذي هو في عقله، والله هذا النّبهاني الّذي يتكلمون عليه لو كنت مكانهم لفعلت به أكثر من هذا، لأقطّعنّه إرباً إرباً ),يقصد الصورة المعكوسة التي ارتسمت بفكر من يذمّه، ولو عرفه على حقيقته لما وسعه إلاّ صحبته ومحبته واتّباعه .
لا يعامل الناس بما هم عليه، بل بما هو عليه، فيتجاهل بغض مبغضه ويلتمس له العذر، ويحسن إليه ليرده إلى الله تعالى قال رضي الله عنه : القوي لا يؤاخذ الجاهل الضعيف) ,
لذلك رضي الله عنه لا يشكو ممن يسيء، ولا يعاقب ولايعاتب، بل يلتمس عذراً ويحسن لمن يسيء، ويتأثّر على المسيء لا من المسيء، ويدعو الله تعالى لـه، ولا يتحـدّث بإحسانه إليه، ويتجاهل خطأه، ويرى في المسيء سبباً فـي ترقيته، ويستفيد منه درساً مفاده:هكذا أنا فلا تكن مثلي ويتضرع إلى الله تعالى أن لا يؤذي من آذاه، أو يشقى أحداً بسببه، سبحانك ربي ما هذا بشراً إن هذا إلاّ ملَك كريم يوسف 31 ].
ويفرق رضي الله عنه بين الولي المحمّدي وغير المحمّدي: الولي المحمّدي لا يدعو على أحد بالانتقام، ولا يزيده جهل الجاهل معه إلا حلماً وصفحاً.
قال رضي الله عنه : والله يا أولادي أنا واحد من الناس ما رأيت الخير إلاّ بالابتلاءات، وما عرّفني وما جعلني عبداً لله إلاّ الابتلاءات، وجعلني أشهد لا أحد في الوجود إلاّ وأنا أذلّ منه، عرّفني الحق أني عبدٌ له، ابتلانا بالخير والشر، الابتلاءات هي التي تعطي السعة والرحمة، الّذي يحبني يصبر، كل الخير بالصبر والله ما رأيت الخير إلاّ بالصبر، الدنيا من أولها إلى آخرها دار ابتلاء فقط، الابن ابتلاء والأب ابتلاء، والمال ابتلاء، والعلم ابتلاء، الابتلاء عرّفنا أنفسنا بأننا عبيد، وعرّفنا إذا جاءنا شيء من الكمالات فهي له وليست لنا ذَلكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ الجمعة 4.
وهذه الأمور كلّها إذا كانت الإهانة موجهة لشخصه، أما إذا انتهكت حرمات الله تعالى في الدين والعرض فليس في الناس أسرع منه للرد ولا في الغضب أشد .
شواهد الامتحان
أ. البرقيتان
قال رضي الله عنه : (آخر الابتلاءات الكبار، أربعة عشر من المحسوبين على العلم والعلماء أبرقوا إلى رئيس جمهورية سوريا أديب الشيشكلي برقيتين، يطالبونه بالخلاص من الشيخ محمّد النّبهان، جاء في منطوق الأولى : الشيخ النّبهاني يبايع بالخلافة وفي الثانية: أنقذونا من كيشاني (3) سوريا الشيخ النّبهاني، وأديب الشيشكلي لم يزل يذكر برقية السيّد النّبهان رضي الله عنه التي أرسلها إليه بعد انتخابه رئيساً للجمهورية إذ أبرق له رضي الله عنه : لا نوافق أن يكون أديب الشيشكلي رئيساً على سوريّا,
فلذلك اهتم بالأمر وطلب التحقيق فيه، فإن تحقق مضمون البرقية فسينتقم ما وجد سبيلاً إلى ذلك، فبعث إلى حلب وزيرين ليستوضح الحال..!
فتبين انّه لم يكن من ذلك شيء، وحين أرسل محافظ حلب يخبر سيّدنا النّبهان رضي الله عنه انّه حقق في زعم الذين طالبوا بإعدامه رضي الله عنه فلم يجد لادعائهم أصلا، تجاهل رضي الله عنـه علمه بها، فالرجل الّذي تخلق بالحلم والصبر، وتحقق بالتسليم المطلق لله تعالى، لم يعوّل على نفسه أو على أحد بل يفوّض إلى الله أمره، وكثيراً ما يردد:
وإذا العنـايـة لاحظتْـك عيونهـا نَـمْ، فالمخـاوف كلّهـنّ أمــانُ
فهو رضي الله عنه محفوظ لو نامت عينه فانّه مطمئنٌ إلى من عينه لا تنام، لا يجزع ولا يسخط ولا ينتقم، بل يعاود خلوته كلما داهمه أمر ويفزع إلى الصلاة، باكياً منكسراً، : إلهي إلهي
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الّذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحّ منك الودّ فالكل هيّنٌ وكل الّذي فوق التراب ترابُ
فلم يبال ِ رضي الله عنه بكدر السواقي ما دام رأس العين عنده صافياً، وكل ما عمله لأولئك الوشاة دعاء لهم بأسمائهم خلف الصلوات الخمس، لا يبيت ليلةً إلاّ وهو مسامح لجميع الخلق .
سأله مرّةً الشيخ محمّد لطفي رحمه الله مدير دار نهضة العلوم الشرعية في الكلتاوية: سيّدي هؤلاء حساد فكيف تدعو لهم؟. فأجاب رضي الله عنه :( أنت تقول حساد، أما أنا فلا أقول حساد، أكثر فائدتي من الحسّاد والأعداء، الحق عزّ وجل هيأهم ليهذبوني ويؤدبوني ويعلموني ويجعلوني عبدا لله، ما أنا عبد لأبي ولا لأمي؟ هم عرفوني التوحيد، أنا ذلي رأيتـه ذلاًّ حقيقيا أعطاني عبديتي.
ثمّ جاءه بعض أولئك معتذرين فقال أحدهم: أنا حلّ قتلي لأني وقّعتُ على البرقية .
فأجابه رضي الله عنه : (أنت مسامح. .
قال رضي الله عنه : (مشايخ المعاش زعموا أنني طلبت الخلافة، أعوذ بالله أن أكون ذلك! .
ب. أهؤلاء هم اللصوص!؟
في ليلة خسوف للقمر اجتمع في بيته رضي الله عنـه نخبة من مشايخ حلب، وفيهم الشيخ أحمد المصري، والشيخ محمّد الجبريني، والشيخ بشير حدّاد.. بيـنما وقف الشيخ محمّد أسعد العبجي يرتجل الخطبة.. فإذا بالباب يطرق: انّها مفرزة شرطة وهم يسألون عن سيّدنا رضي الله عنه وعن اللصوص الذين أخفاهم!
فلما أبصروا قالوا: ما شاء الله على هؤلاء اللصوص وخرجوا يطلبون الدعاء من سيّدنا رضي الله عنه
وتبين الأمر أن أحد مجاوريه يحتكر بيع السمن في بيته دون رخصة من الدولة، فظنّ القوم يبيتون سرقته، وهكذا يكون الخائن خائفا. وفي اليوم التالي توفيت زوجة المخبر فذهب رضي الله عنه إليه وعزّاه! وما أن مضت أيام التعزية حتى ارتحل الجار إذ لم يحتمل عفو الشيخ وتعزيته له في زوجته، فأبعدته فعلته عن مجاورة سيّدنا لشدة خجله وندمه على سوء ما صنع.
ج. الفلاّح المغتصب وقرار محكمة عدل حلب
وكانت عنده رضي الله عنه ضيعة ثمينة امتلكها إرثا من تركة والده رحمه الله فادّعى فلاّحها عائديتها له بعد مضي خمسة عشر عاماً. فاستدعته المحكمة لأداء اليمين فرفض الحضور، ثمّ أتبعها بمؤنة وأقمشة له ولأهله فما كان من محكمة عدل حلب إلاّ أن أصدرت قراراً يقضي بغلق جميع الدعاوى التي ترفع على الشيخ محمّد النّبهان، لأنّ مثل هذا سيؤدّي إلى طمع المحتالين فيه .
ونظير ذلك: أنكر عليه أحد الفلاّحين (ماكينة سقي) مودعة عنده، ثمنها أربعة وثلاثون ألف ليرة سورية وهو مبلغ كبير آنذاك فتركها له دون خصام، فعجب المحامي من فعله رضي الله عنه وقال له: والله لو كان هناك رسول بعد سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم لقلت: أنت الرسول!! .
د. حمامة في مدخنة السخان
تعمّد إيذاءه جار له فألقى حمامة في مدخنة حمّام بيته، فانفجر السخان دون أن يصاب أهل البيت بأذى فقيل له: سيّدي هذا من فعل جارنا (فلان) فأجاب: أودّ أن أتشّفع له يوم القيامة .!
سروره بأقدار الله تعالى
أ. حدث الأستاذ الحاج ناصر عبد الحميد الناصر الحلبي رحمه الله تعالى قال: بينما كان رضي الله عنه يلقي درسا في بعض أصحابه قدم عليه ثلاثة من قرية تويم وهم في حيرة أيخبرونه بما حدث أم لا ؟ فتشجع أحدهم وهمس في أذنه رضي الله عنه ان الزراعة قد أصابها مطر فأتلفها. فلم يقطع مذاكرته متجاهلا رضي الله عنه ما سمع وكأنّ المحصول لغيره فلم يقطع حديثه ثمّ مضت دقائق فتقدم آخر يكرر ما جرى فقال رضي الله عنه : (تريدون جوابا ظننتم أنني ما سمعت من الأول؟ والله لو تحرّك قلبي مثقال ذرّة أسفا عليها, (أي على الزراعة) ما عددت نفسي إلا مشركا). فقلت في نفسي , ولا يزال الحديث لصاحب الرواية,فقلت في نفسي كيف يقول سيّدنا هكذا وأنا تاجر إذا ما أربح أنـزعج , وفي العام التالي زرع رضي الله عنه فجاءه المحصول مضاعفا.
وحين اجتمعت أثمانه لديه وزعه على الفقراء والغارمين والمتعففين وطلبة العلم وغيرهم.
فلم يبق من المال شئ وفي صبيحة اليوم الثاني جاءه سائل فقال له رضي الله عنه:اذهب إلى فلان وخذ منه كذا من المال وقل له سجلها ذمة على الشيخ محمّد النّبهان), فتلك نبذة من تسليمه المطلق لله تعالى وتفويضه الأمر لمراده وهذه الحادثة إحدى أذواق عبديته لله سبحانه يصبح ويمسي مطمئنا مسرورا بمجاري الأقدار الإلهية.
ب. حدثنا وكيله في الزراعة الحاج أديب حيّاني، قال: بذرنا لسيّدنا على المطر ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وستين 3363) جوالاً من الحنطة، فلم يعد علينا بسبب الجفاف شيء، فما رؤي رضي الله عنه في وقت أسرَّ من الوقت الّذي أودى الله تعالى فيه بالحاصل، فرحاً منه بالمقادير الإلهية، وحفظ الله تعالى له الحنطة في تربتها، وجاء العام التالي فهطلت أمطار غزيرة، ونبت البذر نفسه فعوّض الله عليه بأضعاف مضاعفة، وأوفى أكثر ديونه .
ج. طمع بعض المحتالين من الفلاّحين بالأرض وحاصلاتها من القطن في أكبر مشاريعه الزراعية قرية (التويم) مدّعين أن لهم عليه حقوقا وأعانهم بعض المسؤولين في ذلك الوقت،فاستولت الدولة آنذاك على القرية بما فيها، ولم تكتفِ بهذا القدر: بل دبّروا فتنة لقتل ولده ( أحمد ) فباءت بالفشل . وكان أثناءها يحسن رضي الله عنه إلى أولئك بإرسال المؤن والقماش لهم! وحين سئل:كيف ترسل لهم يا سيّدي وقد فعلوا ما فعلوا
ونابذوك العداء؟ فأجاب رضي الله عنه :كل شيء لوحده!..
د. وعندما فاض نهر (قويق) المار بحلب، وأحاط الماء بقرية (تويم) أتوا بزورق لدخول القرية أوالخروج منها، وتعطلت الزراعة في ذلك العام، فطلب ولده (أحمد أبو فاروق) من والده السيّد النّبهان رضي الله عنه أن يدعـو الله ليذهب الماء، أجابـه رضي الله عنه:هذا أمر الله تعالى، وليس أمري، ونظرت لقلبي فقلت: لــو أن قلبي تمنى غير ما عليه الحال ما عددت نفسي مسلما، فوجدته لم يتمن غير الواقع، فهو العالم جل جلاله وأنا الجاهل، فحمدت الله تعالى.
--------------
(1شعب الإيمان للبيهقي برقم (9786) 7/ 145 ، قال المناوي في فيض القدير: ورواه أحمد عن محمود بن لبيد وزاد فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع قال المنذري رواته ثقات 1/ 73 .
(2) سنن الدارمي برقم (2783) 2/ 412 .وصحيح ابن حبان 7/160 وزاد فيه ويبتلى العبد على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يدعه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.
3) عنَوا بـ ( كيشاني سوريّا ) تنبيه الحكومة إلى خطر الثورة، مقارنةً بكيشان إيران، وكيشان إيران: هو أبو القاسم الكاشاني ولد سنة 1892م في مدينة (كاشان) من بلاد فارس، وابتدأ في الخامسة والعشرين من عمره حياته الجهادية إلى جانب والده، واشترك بعدها مع العشائر العراقية في مدينتي الكوت والعمارة في حربها ضد الانجليز، وحاولت قوات الاحتلال الإنجليزي أن تظفر به فلم تفلح، فرجع إلى إيران، ثمّ أبعد منها سنة 1949م إلى لبنان فلم يستطع الاستقرار والهدوء فيها، وعاد مرة أخرى إلى بلاده وانضم إلى جانب الجنرال محمّد مصدق في ثورته ضد الشاه، ثمّ اختلف معه وتركه، لكنه بقي طاقة تتفجر أينما حل حتى وافاه الأجل في 13/3/1962م .