تقاليد الأسرة:
كانت تقاليد العائلات الكبيرة أن تعيش الأسرة كلها في كنف الأب، وألا ينفصل أحد من الأبناء عن الأب لا في داره ولا في عمله، فدار الأب هي دار لجميع أبنائه ولو تزوجوا وأنجبوا، وعمله هو عمل للجميع يساعده أبناؤه فيه، ويبقى مال الأسرة واحداً، لا يوزع ولا يقسم، يأخذ كل ابن ما يحتاجه لحاجاته وحاجات وأسرته.
لم يكن الشيخ ليخرج عن هذه التقاليد وهو البار بوالــده، الأولى باحترام ما يريده الأب وما يسعده، كان الأب يعمل في الزراعة والتجارة، وله خان معروف باسمه، وكروم للفستق وأملاك متفرقة.
ربما شعر الشيخ أن حريته في اختيار عمل مستقل له لا يسعد والده، ولم تكن له حريّة مطلقة في الإنفاق من مال أبيه على مساعدة من يحتاجونه، ولم تكن أخلاقياته تسمح له أن يتعامل كالآخرين في مجال العمل، وما يتطلبه ذلك من ومجادلة ومشاحنة.
ولم ينفرد بعمل من أعمال الكسب عن أبيه، وكانت له ديون عند آخرين ربما كان يتعامل معهم أو بسبب قرض لم يطالبهم به، انطلاقاً من خلقه المتميز بالسماحة في حقوقه وهذه صفة استمرت ملازمة له في حياته كلها، فكان يخجل أن يطلب حقاً من حقوقه أو يستعيد ديناً له في ذمة الآخرين، ولم أسمعه يوماً يشكو من أحد بسبب دين له عليه، أو يتحدث عنه بما يكره.
الرزق والعمل:
كانت قضية العمل منفصلة كلياً في ذهنه عن قضيــة الرزق، ولم يتحدث قط عن الرزق في موطن حديثه عن العمل، فالرزق من أمر الله، الذي يرزق من يشاء بغير حساب، والله هو الرازق لعباده وأن الرزق محسوم أمره ومقدر منذ الأزل، ولا يجدر بالعبد أن يشغل نفسه بأمر الرزق وكان يردد الآيات القرآنية:
{ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}
{والله يرزق من يشاء بغير حساب}
{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}
والآيات القرآنية واضحة الدلالة على أنَّ الله تعالى ضمن رزق عباده تطميناً لقلوبهم، وربط الرزق بالأسباب لحثهم على العمل والكسب، والرزق مقسوم منذ الأزل والعمل مطلـوب لذاته وهو عبادة، ولا ينبغي للعبد أن يشغل قلبه بأمر الـرزق المضمون له والذي تكفل الله به، وهذا لا يمنعه مـن السعـي المحمود في الدنيا، لأنَّ أمر الدنيا لا يستقيم إلا بالعمل والإنتاج والسعي فيها بما يؤدّي إلى عمارتها.
والعبد مطالب بحسن الأدب مع الله في طلب الرزق، تعبيراً عن معنى العبدية لله تعالـى، والإلتجـاء إليه ومناجاتـه والإجمال في الطلب بما يستدعيه حسن الأدب، فالله تعالى هو الأعلم بما يحتاج إليه العبد وما يكفيه وما تستدعيه الحكمة من توقيت الإجابة، والله الذي تكفل برزق الطيور ودواب الأرض في الصخور والغابات والصحارى قادر على أن يرزق الإنسان ما يكفيه لاستمرار حياته، وأن يعطيه ما يغنيه بشرط ألا يهتز يقينه بالله وألا يضعف إيمانه برزق الله له وألا يشغل قلبه بهذا الرزق، وألا يشعر بالخوف من انقطاع الزرق، فالتوكل على الله في قضايا الرزق أمر مطلوب وأدب مستحـب ومندوب إليه، ومن انصرف إلى ربه وانشغل بما أمره به مـن الطاعات وخدمة خلق الله فالله يتولى رزقه وكفايته.
ولم يتكلم عن الرزق والكسب بما اعتاد الناس أن يتكلمـوا بمثله، ولم يشغله هذا الأمر مهما ادلهمت الأحوال وساءت، ولم يتحدث عن غد إطلاقاً، فكلمة المستقبل غير مستحبة في نظره يضيق عند سماعها، ويتبرم من ترديدها، وكأنها تصدم سمعه.
قضية الرزق كانت خارجة عن نطاق اهتمامه وتفكيره، وكان يتحدث عن أغنياء شكوا إليه أمرهم، وانهم يصابون بالذعر والخوف وينتابهم المرض والذهـول وتشحب وجوههم لمجرد خاطر يخطر ببالهم أن يذهب مالهم ويصبحوا فقراء، كان يعتبر ذلك من ضعف الإيمان بالله وعدم التوكل عليه، ولو استنارت قلوب هؤلاء لأوكلوا أمرهم إلى خالقهــم المتولي لأمرهم، وسوف يتولاهم كما يتولى باقي خلقه، وعاشوا سعـداء لا أشقياء، مطمئنين لا خائفين ولا وجلين ولا متهيبين.
كان يندد بأصحاب التدبير الذين يخططون ويدبرون ويرسمون لمستقبلهم ولا يؤمنون بأن المستقبل بيد الله وهو الذي يدبر أمره لخلقه، والتدبير مع الله هو الجهل بعينه، وما لهؤلاءالمدبرين مع الله لا يفقهون معنى أن يتولى الله تدبير شؤونهم ثم يسلمون ذلك إلى ربهم.
لم أسمعه قط يتكلم عن مستقبل أسرته وأولاده، لم يفكر قط في شراء دار لاستقراره أو لادخار مـال لأجـل أولاده، أو لحسابات الربح والخسارة في أعماله... كان كل ذلك خارجاً عن نطاق تفكيره، وكأنه لا شيء يشغله من أمور الدنيا.
رآني يوماً شارداً مهموماً وكنت في السادسة عشرة من عمري، سألني عما أفكر فيه فقلت له:
ـ أفكر في مستقبلي وأخطط له.
أجانبني بأسف وبلهجة حانيّة ودودة:
لا يا ولدي.. لا تقل هذا ثانية. المستقبل بيد الله، إن كنت صالحاً فسوف يتولى الله أمرك بالرعاية والتوفيق والسداد.
ما زال أثر تلك الكلمات القليلة التي لم أفهمهـا يومـها ولم تصل إلى قلبي يوقظني في كل موقف من حياتي، يعيد إلي الأمل والابتسامة في لحظات الإحباط والقنوط، استعيد بها ثقتي بالله، وأجد فيها البلسم الشافي الذي يمدني بالقوة والنشاط، ما أجمل أن يشعر العبد بأن الله يتولى أمره ويرعى شؤونه، إنـه شعور بالقوة الذاتية، إنه سلاح يقاوم به العبد ذلك الشعور العميق من الخوف الدفين في أعماق الذات الإنسانية.