آخر المواضيع
اخترنا لكم




  الرئيسية    عمـل للدعوة إلى الله
في قرية الجابرية



مرات القراءة:9605    
أرسل إلى صديق
أبلغ عن مشكلة في هذه المادة

قرية الجابرية: 


كانت قرية الجابرية هي المشهد الأول الذي ما أزال أذكره، وما قبله لا أذكره، كنت صغيراً، والجابرية هي التي شهدت طفولتي الأولى، واستمرت لمدة خمس سنوات تقريباً.
 تقع الجابرية في الجهة الجنوبية من مدينة حلب على مسافة ساعتين مشياً على الأقدام، عشرة كيلو مترات عن المدينة، ويبتدىء الطريق إليها من حي الأصيلة وباب المقام وجامع الصالحين على مشارف المدينة، ثم يبتدىء الطريق الزراعي غير المعبد ماراً بقرية أم سعيد التي تتوسط المسافة، ثم يصل المسافر إلى التل المشرف على عين مبارك، حيث تقع قرية الجابرية الصغيرة قبل قرية الوضيحي.
 وتقع القرية في أرض منبسطة واسعة لا أشجار فيها، وهي الأرض البعلية التي تزرع بالقمح والشعير والعدس والجلبان، وإلى الجهة الغربية من القرية تقع بساتين الجابرية، وهي سبع بساتين رائعة الجمال يمر في وسطها نهر صغير هو من بقايا نهر قويق الذي يعبر مدينة حلب، وتغذي هذا النهر الصغير ماء عين مبارك في أسفل تل الجابريّة والبساتين رائعة الجمال غزيرة العطاء، تزرع فيها أشجار الجوز واللوز والفواكه المختلفة، لتجعلها وكأنها غابات خضراء وتحاط بالبساتين كروم العنب وأشجار الزيتون، ويخترق القطار الحديدي المسافر إلى دمشق وبيروت هذه البساتين، ويتوقف في محطته الأولى في قرية الوضيحي.
 كانت القرية ملكاً لأسرة الجابري، وهي من أشهر الأسر الثرية المعروفة بمكانتها الاجتماعية وثرائها، ولم يكن صاحبها قادراً على إدارة شؤونها، فاستأجرها الشيخ من مالكها بكل ما فيها، وما زلت أذكر ذلك الثور الكبير العريق الذي كان يحرث الأرض مع البغال، ويأتي المزارعون من المناطق البيعدة بأبقارهم إلى الجابرية لكي يقوم ذلك الثور القوي الضخم بتشبيب الأبقار لكي تنجب منه ما يشبهه في الشكل والقوة والضخامة والأصالة، وكان هناك كلب أسود عظيم الوفاء يقف عند الباب الخارجي يحرسه بأدب، واصبح صديقاً للأسرة يعامل بكل الرعاية، وينادي بأحب أسماء التودد إليه، وتخصه الأسرة بأجود الطعام وأطيبه، رعاية لأمانته ووفائه، ما زلت اذكره وكأنني أراه أمامي واسمع صوته الهادىء وهمسه، وإذا وجد غريباً فسرعان ما ينقلب إلى ثور هائج لا يسكت نباحه إلا بعد أن يأتي إليه أصحاب الدار وكانت هناك فرس أصيل اسمها «الدهمه» كان الشيخ يملكها من قبل، وجاء بها إلى القرية، كانت قد تجاوزت سن التمرد والشباب وأصبحت أكثر حكمة في سيرها وهدوءاً في جريها، لا تخيف من ركبها، ولو كان من غير الفرسان، ولا تغدر به ولو اكتشفت ضعفه أو صغره أو قلة حيلته في عالم الفروسيّة، ولذلك أحببتها وصادقتها ولم تغدر بي أبداً بالرغم من اكتشافها أمري وأنني ما زلت صغيراً على الركوب، ولما استبدلتها يوماً بغيرها رمتني أرضاً وكسرت يدي والزمتني الفراش.
 رافقت الشيخ في رحلته الأولى إلى القرية، كانت الأسرة كلها هناك، كنت أسمع في الليل أصوات «الدياب» وهي تقترب من القرية تبحث عن الأغنام الضالة التي خرجت في الليل أو الأبواب التي لم يحكم أهلها إغلاقها، فأخاف وأرتجف، وأسمع في صباح اليوم التالي أخبار تلك الهجمات الإرهابيّة على معاقل الحيوانات البريئة المختبئة داخل أسوار القرية.
 ذكريات مضت، أكثر من نصف قرن، وما زلت أذكر دقائقها التي رسمت لي لوحة في خيالي، وهي أول اتصال لي بالعالم الخارجي، وبخاصة في حياة الريف.
 كانت القرية داراً واسعة ممتدة محاطة بالأسوار والقباب الطينية، ويتوسطها بئر عميق تسحب المياه من جوفه بواسطة «مضخة حديدية» منصوبة على فمه، وترفع المياه بواسطة مقود يرفع ويخفض فيتدفق الماء إلى الأعلى.
 وكان هناك بابان للقرية، الباب الغربي ويؤدّي إلى دار الشيخ المحاطة بسور حجري يحجبها عن الفضاء الشرقي الذي يسكن الفلاحون فيه، ويضم بيوتاً وقباباً متصلة، ويتوسطها إسطبل الدواب الذي يضم الثور الكبير وبغال الحرث والفلاحة، وتمتلىء هذه الساحة الواسعة بالدجاج الذي يسير باستعلاء في هذه الساحة الواسعة باحثاً عن حبات القمح المنثورة في ثنايا التراب.

 

حياة الشيخ في الجابرية:


 كان الشيخ يقضي معظم الصيف في الجابرية، ترافقه أسرته، ويسكن في داره الخاصة المطلة على المنطقة الغربية، التي تتوسطها البساتين التي يمرّ القطار بالقرب منها، في ذهابه وإيابه.
 وكان يستقبل إخوانه في هذه القرية في كل يوم، يقضون يوماً أو يومين وهناك فريق يلازمه باستمرار خلال إقامته، ويقضي معظم الفترة الصباحية في غرفته التي كان يستقبل فيها ضيوفه، وتكون مجالس مذاكرة وتوجيه وتربية، وإذا صلى العصر خرج من داره يرافقه إخوانه في طريق يمتد من القرية إلى الجهة الغربية حيث تقع فيها البساتين الخضراء، ويمشي على رجليه غالباً من العصر إلى المغرب، ويعود عند الغروب إلى القرية ليؤدي صلاة المغرب، ويتناول عشاءه، ثم يواصل مجالسه في المساء، وقد تمتد لمنتصف الليل في ضوء القناديل الزيتية، وأحياناً يختار الجلوس في ضوء القمر في ليالي الصيف والتي اشتهرت هذه المنقطة بهوائها الجاف العليل ونسماتها الباردة التي تشبه نسمات البادية.
 كان إخوانه يزورونه في كل يوم، حيث تخرج الحافلات القديمة من حلب عند العصر لتعيد أهل الريف إلى قراهم وبيوتهم، بعد أن يقضوا حوائجهم في المدينة، وتعود الحافلات إلى المدينة عند الصباح حاملة معها سكان القرى، عابرة الطريق الترابية التي لم تكن معبدة في تلك الأيام، فيأتي الإخوان في هذه الحافلات عند العصر، ويقضون فترة المساء في القرية مع الشيخ، ويعودون في رحلة الصباح إلى المدينة لمتابعة أعمالهم.
 لم يضق هذا الشيخ يوماً بزيارة إخوانه وأحبابه، كان يستقبلهم بحفاوة ويحتفي بهم، وينزلهم على الرحب والسعة من غير تكلف، يأكلون مما يأكل، ويشربون مما يشرب، وينامون في الأماكن المخصصة للضيوف، يرافقونه في رحلة المساء إلى البساتين ويسهرون معه ويحضرون مجالسه في الليل، ويستمتعون بنسمات الصباح الباردة، فإذا عادت الحافلات إلى المدينة في الصباح حملتهم معها.
 وفي يوم الجمعة تبتدىء مواكب الزوار من أحبابه الإخوان في القدوم إلى القرية منذ الصباح المبكر في حافلة خاصة كبيرة، يقضون النهار كله في رفقة الشيخ، المهيب الطلعة وهو يعدّ لهم خيمة كبيرة في مكان بجانب النهر تحت أشجار البساتين، ويفرح وهو يشاهدهم ويستمتعون ويمارسون هواياتهم المحببة من التسلق على الأشجار والجري في الممرات الخضراء والسباحة في النهر وركوب الخيل والرماية.
 وغالباً ما كان الشيخ يغيب عن المكان ليترك لهم حرية الحركة والمتعة وإعطاء النفس حقها من الاستمتاع بمباهج الحياة مما يؤنس النفوس ويريحها ويخفف عنها من أعباء الهموم اليومية.
 ما زلت أذكر مناظر أصحابه كانوا في قمة شبابهم يركضون في الحقول ويتسلقون الأشجار الكبيرة ويرمي بعضهم البعض الآخر في النهر، ويمتطي أحدهم فرساً فتندفع به بقوة فيصرخ خائفاً متوسلاً أن يمسكوا بمقودها، والشيخ ينظر إليهم من بعيد ويفرح بهم ويبتسم لما يراه، ويأتي إليه شاك فيشكو صديقاً له أخافه وأرعبه، فيفرح الشيخ، ويحضهم على المحبة والإيثار وأن تكون قلوبهم صافية نقيّة تحب في الله وتبغض في الله.
 ويرتدي الشيخ ملابس الفروسية التي اعتاد أن يلبسها عند ركوب الخيل، ويقفز فوق فرسه وكأنه شاب في مقتبل العمر، ويردفني خلفه، ويوصيني أن أمسك به بقوة، ويعود إلى القرية بعد قضاء يوم جميل بين، وأشعر وأنا خلفه كأنني أمسك بالقمر بين يدي شعوراً بالفرحة وإحساساً بالبهجة.
 وفي المساء يبتدىء مجلس الشيخ بالمذاكرة، لا تعارض بين ما وقع في النهار من متعة وأنس وبهجة وبين ما يكون في الليل من تربية وتكوين وإحياء للقلوب وتهذيب للنفوس، فهذان أمران لابدَّ منهما لكمال الحياة وجمالها، فالجلال والجمال كلاهما يمثلان الحقيقة في نظرتها الشمولية النهار والليل يترادفان، كل منهما يكمل الآخر، ولا يستقيم الكون إلا بعناقهما وولوج أحدهما في الآخر.
 هذا جزء لابد منه لمعرفة ملامح شخصية الشيخ، فالحقيقة لا تتضح معالمها إلا باستكمال كل جوانب المعرفة بكل ما يحيط بها، ولابد في التربية من معرفة طبائع النفوس وما تنطوي عليه من قابليات.