توجيهاته في العمل:
كان الشيخ يقضي الصيف وبعض أيام الربيع في الجابرية، فالربيع جميل في الريف حيث الخضرة والشمس الدافئة، والنفس تشتاق إلى ربيع الريف، لأنه يمثل الشباب والحيوية والتجديد، ويضيق بالخريف لأنه يمثل الغروب والشيخوخة والحزن، أما الصيف فهو شهر العطاء والثمار، وفيه ينضج كل ما هو عسير يودع الناس أحلامهم الوردية قبل أن يداهمهم الخريف الذي تسقط الأوراق فيه.
وأول ما يلفت النظر في شخصية الشيخ هو حبه للحياة بكل جمالها، وتعشقه للطبيعة الخلابة واستمتاعه غير المحدود بجمال الريف ونسماته العليلة وأزهاره وثماره اليانعة، ولهذا لم يتبرم يوماً بالحياة ومشقاتها، ولم يستسلم يوماً لاحباطاتها وابتلاءاتها.
لم تكن الزراعة بالنسبة له مهنة وإنما كانت متعة يحقق بها ذاته، كان يريد أن يكون كل شيء جميلاً في مظهره نظيفاً في شكله متقناً في أدائه، وكان ينفق بغير حدود لكي يكون العمل متقناً لا نقص فيه ويكره الذين لا يتقنون أعمالهم والذين يهملون في أداء واجباتهم، ويعتبر هذا الوصف مما لا يليق بالإنسان.
ومما كان يعجبه في خلانه ومساعديه أن يكونوا رجالاً في مواقفهم حكماء في آرائهم ومن ذوي المروءة والشجاعة والسخاء، لا يهابون ولا يخافون إذا قالوا فعلوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا.
ولما أراد أن يغادر القرية أخذ يبحث عمن يسند إليه مهمة الإشراف على شؤونها، واختار من أهل القرية شاباً في مقتبل العمر، وربما يكون هو الأصغر سناً، وقد اختاره لما وجده فيه من خلق وشجاعة واستقامة، وأوصاه بأن يكون المسؤول عن شؤون القرية يدير شؤونها ويشرف على العاملين فيها.
وأوصاه عندما كلفه بهذه المهمة بأن يرعى حقوق الله في احترام حقوق الفلاحين، وأن يشعرهم بالكرامة وألا يسيء لأحد منهم، وأن يكون قريباً من قلوبهم وأن يعاملهم بالإحسان، وأن يترفع عما يصدر منهم من هفوات، وألا يظلم أحداً منهم، وأن يحترم كبيرهم ويراعي المستضعف منهم.
وفي أيام الموسم في بداية الصيف كان الشيخ يذهب إلى القرية يشرف على الحصاد والرجاد والدراس والذراية، وهي مصطلحات كنت اسمعها في ذلك الحين، وفي أيام الحصاد كانت القرية تمتلىء بالعشرات من العمال الذين يهجرون قراهم في هذه المناسبة للمشاركة في حصاد المواسم، قبل ظهور ماكينات الحصاد، وكان الشيخ يوصي وكيله بأن يكرم هؤلاء العمال وأن يعتني بطعامهم ومكان إقامتهم، وألا يرهقهم فيما لا يطيقون، وأن يلتمس أعذارهم في حالات المرض والشيخوخة وألا يكلف الأطفال ما لا يطيقون.
ثم ينقل الزرع المحصود إلى مكان يسمى البيدر، الذي تجمع فيه المحاصيل الزراعية بسنابلها، ويتم تجريد الحبوب من سنابلها بواسطة دراسة أسنانها حديدية تمزق السنابل إلى أن تصبح تبناً ناعماً، ثم تفرز الحبوب من التبن بواسطة الهواء الذي يدفع التبن بعيداً وتبقى الحبوب.
كنت أقضى النهار المشمس في البيدر انتقل من دراسة تقودها البغال إلى أخرى، واستمتع بركوب تلك العربة الخشبية المتهالكة، ولما رآني الشيخ وقد أحمرت وجنتاي قال لي:
هل أدلك على أفضل من هذا يمتعك ويبعدك عن حرارة الشمس وأعطاني أربعة أغنام وطلب مني أن أرعاها في البستان على أن أعود قبل الغروب، وقال لي: رعاية الأغنام تشعرك بالإنس معها، وتمتعك بما تشعرك به من الإلفة، وأخذت أصحو مبكراً لكي أرعى أغنامي، ويسألني الشيخ عنها هل أطعمتها واخترت لها الأرض الخصبة ؟.
وذات يوم وبينما كنت أمشي إلى جانب النهر انزلقت إحداها وانغرست أقدامها بالأوحال وعجزت عن الحركة، ووقفت حائراً متردداً أبحث عن منقذ يخرجها من ذلك الوحل، وجاءني البستاني مسرعاً، وأنقذ تلك الشاة المسكينة، ولما جاء الشيخ حدثه البستاني بما وقع لتلك الشاة، ابتسم الشيخ وقال لي بلهجة جادة:
(يا ولدي إذا وليت رعاية فأحسن الرعاية، وكل راع مسؤول عن رعيته، فإذا قصرت في رعايتها غاصت في الأوحال، ولو أبعدتها عن تلك الأوحال لما تعرضت لذلك الخطر).
تلك كلمات كنت أسمعها في طفولتي المبكرة، لم أكن أعيها في ذلك الحين، ولا أدرك معانيها ودلالتها، ولكن لا أدري كيف بقيت في ذاكرتي حية ناطقة، لم تعبث بها الأيام، أذكرها في كل حين في كل موقف مشابه لذلك الموقف، تنتصب أمامي وكأنني اسمعها من جديد.
وكان من عادة الشيخ عندما يخرج محصول الحبوب يذهب إلى البيدر، ويجتمع رجال القرية حول المحصول، ثم يتقدم أحد الرجال حاملاً بيده الكيل وهو إناء خشبي كبير تكال به المحاصيل، وتوزع الحصص على أصحاب الحق، كل بحسب سهمه وحصته، ويحمل كل فرد محصوله إلى داره، فإذا كان المحصول قليلاً لا يكفي لسداد دين المزارع يقول له الشيخ: خذ ما يكفيك لعامك هذا، فنحن نملك ما يكفينا، ومن حقك أن تأخذ ما يكفيك ولا تطمع فيما هو زائد عن حاجتك.
كانت فترة الجابرية هي الأجمل والأكثر صفاءً، ربما بسبب قربها من المدينة أو بسبب بساطة العيش فيها، كانت مجالسها جميلة ورائعة كان روح الأسرة الواحدة بين تلامذة الشيخ غالباً وواضحاً.
في تلك الفترة تعلمت الدروس الأولى في التربية، ولم تكن دروساً نظرية، إذ لم أكن أفهم الكثير من كلام الشيخ، ولكنني مازلت احتفظ بالكثير من المواقف والذكريات، وكنت أنهل منها الكثير من القيم والدروس التي كانت تغذيني وتعلمني.
وأهم ما كان يلفت نظري في هذه الفترة صدق الإرادة لدى الإخوان، كانوا أقل عدداً وأكثر صدقاً، ويغلب عليهم الصفاء، حيث كانت الحياة بسيطة وميسرة.
انتهت فترة الجابرية وبقيت ذكرياتها، وما زال العشرات من رموز هذه القرية، وإخوانها يذكرون أيامها، أراهم اليوم واذكرهم، معظم الجيل اللاحق لم يعش أيام الجابرية، كان بعضهم لم يولد بعد، وبعضهم كان في مهد الطفولة الأولى، ولم يكن الجامع قد بني بعد، ولا المدرسة، حيث انتقل نشاط الشيخ إليهما، وانصب اهتمامه على إنشائهما.
وعاش تلك المرحلة الأولى الجيل الأول من الإخوان من أمثال أبو عمر الدباغ وفوزي شمسي وأحمد الصغير ومحمد ربيع ومحمد المهندس وأديب حسون ورشيد الناشد ومحمد الشامي ووحيد العتر وعبد اللطيف العتر وحسان فرفوطي وعمر الططري وسليم التبان وناظم الفرا وظافر دباغ وزهير النعساني ومحسن بوادقجي وعبد الله عزو خشبه ومحمود الناشد.