قرية الكيصومة:
انتقل الشيخ إلى قرية الكيصومة التي تقع إلى الشرق من حلب، في الطريق المؤدي إلى الجزيرة ودير الزور بالقرب من «قرية مسكنه» وكانت الكيصومة قرية كبيرة ممتدة، ليس فيها بساتين وأنهار، بل هي أرض بعليه تسقى من ماء المطر، وتزرع الحبوب فيها.
اشتراها الشيخ، بالاشتراك مع آخرين، وكان يريد أن يقيم فيها مشروعات فلاحية واسعة ويخرج الماء من أعماق الأرض، لكي يجعلها سقوية، ولكن هذه القرية كانت لها مشاكل كثيرة، ولم يكن الشيخ يحب ذلك.
كان من عادته ألا يحب أي خلاف في شؤون العمل، وكان يردد أن البركة توجد في صفاء نية الشركاء والعاملين وحب بعضهم للبعض الآخر، وحرص كل فريق على مصلحة أخيه، وعندئذ يبارك الله في هذا العمل، ويدفع الأخطار المحيطة به، فإذا وقع أي خلاف أو سوء تفاهم بين الشركاء فسرعان ما ينسحب منه متخلياً عنه زاهداً فيه.
وقد أمضى الشيخ قرابة سنتين في هذه القرية، كان يمضي فترة من الربيع وفترة من الصيف فيها، وكان يستقبل فيها إخوانه وتعقد فيها مجالسه المعتادة، ولا أذكر الكثير من أيامها.
واذكر حادثة وقعت للشيخ أثناء عودته من هذه القرية إلى حلب، كان في سيارة أديب النعساني الشقيق الأكبر لزهير النعساني، وكان من المحبين للشيخ، ومعه في السيارة كل من فوزي شمسي وجاسم الفياض وأبو عمر الدباغ، وكان الوقت شتاءً والأمطار تهطل، فانزلقت السيارة وانقلبت، وأصيب الشيخ بكسر في يده، اضطر على أثرها ملازمة الفراش لمدة شهر، وكان يستقبل زواره في داره التي انتقل إلهيا بحارة الباشا، ولم يتوقف نشاطه خلال هذه المدة.
باع الشيخ القرية بعد ذلك، واتجه بهمته إلى بناء الجامع وتوسعته وانصرف إلى هذه المهمة وأعطاها كل وقته، وفي الوقت ذاته أقام مشروعات زراعية عدة لزراعة القطن، ومشروع كبير في مدينة جرابلس المتاخمة للحدود التركية، وأقيم المشروع على نهر الفرات، وفي الوقت ذاته أنشأ مشاريع أخرى صغيرة في قرية تلعرن وقرية تل حاصل القريبتين من حلب، وكان يزورهما في كل فترة لمدة ساعات فقط، يشرف على العمل، ويتابعه، ويتولى أمر الإشراف عليهما الشيخ أحمد اللبابيدي أحد إخوان الشيخ، وكان متفرغاً لخدمة الشيخ ومخلصاً في ذلك.
استمر العمل لعدة سنوات، إذ كانت المشروعات ناجحة وموفقة، ولكن ما كان يكسبه لم يكن يكفيه لتغطية مصاريفه، كان يأتيه الكثير وينفقه، ولم يدخر شيئاً ولم يشك من ذلك، كان ذلك هو اختياره ومنهجه.
لم يتكلف قط هذا السلوك، لم يبحث عن الغد، لم يكن يذكر كلمة الرزق، ذلك أمر آخر، كان يتكلم عن العمل كواجب ديني، ويكره من لا يعمل، ويضيق بالكسل، ويندد بمن يعتمد على غيره، ويدعو إلى الارتقاء بمستوى الهمم إلى أعلى درجات النزاهة.
كان يحب العالم الذي يعطي لا العالم الذي يأخذ، العالم الذي يرفع شأن العلم لا العالم الذي يهبط بمستوى العلم، وكان يعلم إخوانه أن يكونوا من أهل اليد العليا لا اليد السفلى، ولم يضق بما كان ينفق أو يعطي.
لم تكن أعماله تشغله عن مجالسه التربوية، ولم تكن الدنيا في قلبه، وكان يديرها ويشرف عليها، ولم يفكر فيها، وكأنها ليست قضاياه، لا يفرحه إن أقبلت ولا يحزنه أن أدبرت، لا لأنه لا يريدها، وإنما لأنه لا يريدها أن تشغل قلبه.
ويتحدث عن المال في خدمة صاحبه ومالكه، وليس الإنسان في خدمة المال، فالمال خلق ليسعد صاحبه لا ليشقيه، وصاحب المال عليه أن يوجه ماله لخدمة الآخرين، وذلك ليخفف شقاءهم وفقرهم.
ولو أراد المال لجمع الكثير منه، فقد كان مخدوماً في كل ما يريد إنجازه، ومعاناً في أعماله، وكان يستطيع أن يوفر الكثير منه إذا أراد، وكان موفقاً في أعماله ومشاريعه الزراعية، وكان قلبه قوياً في اقتحام مجاهل العمل والإنتاج، ينفق بسخاء على الأرض ويحفر الآبار العميقة ويجدد مضخات الماء، ويغذي الأرض بأحسن الأسمدة، وكانت له خبرة واسعة، يستشار فيها، وكان يملك آلات الحرث والحصاد، ولم يكن ينقصه شيء.
وعندما كان يتحدث عن الزهد كان يقول ليس الزهد ألا تملك، وإنما الزهد ألا يتعلق قلبك بما تملك، فقد تملك الكثير ولا يتعلق قلبك به، وقد تملك القليل وقلبك معلق به، فإذا زال ذلك القليل فقدت قلبك بفقده، وعكرت صفاءه ونقاءه.
كان يتحدث عن علاقة الإنسان بأرضه وهي علاقة حب، فمن أحب أرضه أعطته ومن بخل عليها منعته، وهي كعلاقة الغارس بغرسه، لابد من المحبة المتبادلة، ولابد أن تشعر الغرس بعاطفة غارسها وحبه لها، لكي تكون مطواعة له مستجيبة لأوامره، تطيعه إذا أمرها، وتمسك عن الجري إن أومأ لها، وهذه العلاقة كعلاقة الزوج بزوجته لابد من تبادل الحب والعاطفة.
والشيخ لابد له أن يحب إخوانه، إذا أحبهم أحبوه، وإن بادلهم العاطفة بادلوه، والشيخ الذي لا يحب إخوانه سرعان ما يعرضون عنه.
ويعلم إخوانه أن يتعاملوا مع الآلات والأدوات الجامدة بأدب ورفق، فالحصادة مثلاً خلقت لخدمة صاحبها، ولابد إلا أن يحبها ويتعامل معها برفق ويحرص على نظافتها، والمحراث وكل الأدوات الأخرى.
وأكثر ما كان يضايقه أن يترك أحد إخوانه صابونة التنظيف وسخة بعد استعمالها، ويقول له: احرص على نظافتها كما حرصت هي على نظافة يديك، وأعدها إلى ما كانت عليه، وهي تحرص على نظافتها كما تحرص أنت على نظافتك.