قرية التويم:
لم تكن قرية التويم مجرد قرية ريفية أراد الشيخ أن يستثمر أرضها بهدف الكسب والربح، وإنما كانت شيئاً أكثر وأعمق، ليس المهم فيها أن نتكلم عن أرضها وآبارها وأشجارها، وإنما المهم أن نتحدث عن أثرها في نفسية الشيخ، كانت رمزاً جميلاً لعلاقة الشيخ بإخوانه.
كان الشيخ يحبها كأعظم ما يكون الحب، ويرعاها كأروع ما تكون الرعاية، ويحب أهلها ويقربهم إليه، كان يحب كل شيء فيها، لأنها بالنسبة إليه كانت موطن هجرته وقضى في رحابها أجمل سنوات عمره، وكان يقضي فيها معظم الصيف، وأصبحت المركز الأهم لإخوانه في الريف الكائن في المنطقة الجنوبية من مدينة حلب.
في البداية كانت قرية صغيرة تضم مجموعة عائلات ريفية، أراضيها خالية من أي ماء أو شجر، مجرّد أراض جرداء ترزع بالقمح والشعير، تؤتي أكلها في أعوام الخير والمطر وتحبس خيرها في أيام الجفاف والعطش.
كانت بيوتها الطينية البسيطة متفرقة في أرجائها، وتقع هذه القرية وسط قرى ريفية أخرى أكبر منها مساحة وأعز نفراً، يملكون من خصب الأراضي ما لا تملك، ومن الأغنام والإبل ما يجعل لهم التميز في المكانة والمنزلة.
وقد بدأت صلة الشيخ بهذه القرية محدودة، ثم نمت بعد ذلك وتوسعت، وتسكن في تلك المنطقة أسر وعشائر ذات نفوذ وشهرة، وكانت البداية عندما اضطربت أحوال المدينة بعد انفصال الوحدة، وانقسام المجتمع إلى مؤيد ومعارض، وظهور منافسات غير محمودة، واختار الشيخ أن يقضي معظم أوقاته في الريف الذي كان يحبه منذ طفولته، ويحب ما يتحلى به مجالسه عن قيم الريف وأخلاقية القيم السائدة فيه، وأهمها قيم الشرف والفضيلة والتعلق بالدين.
الاهتمام ببناء الريف:
وأهم ما كان يحرص عليه هو الاهتمام بإصلاح الريف، وإعداد طلاب العلم من أبناء الريف، للعودة إلى مناطقهم وقراهم للتوعيّة ونشر القيم الدينية، وكان يجد في طبائع الأسر الريفية نقاء وصفاء، وأراد أن يوجه اهتمامه لذلك الريف الذي يحتاج أهله إلى تعليم أبنائهم لكي يكونوا أداة للنهوض بالمناطق الريفية.
عندما بنى الشيخ مدرسته في الكلتاوية أرسل إلى أمراء الريف وزعماء العشائر وأبناء الأسر الكبيرة أن يرسلوا أبنائهم إليه لكي يعلمهم في مدرسته، ويعيدهم إليهم علماء عاملين مخلصين، ينشرون الوعي الديني في أهلهم وعشائرهم.
وكان يردد في مجالسه أن أمير العشيرة إذا صلح صلحت العشيرة بصلاحه، وإذا صلح أبناؤها انعكس صلاحهم على أهلهم وقومهم ومن حولهم.
كان يقول: أريد من يرفع شأن العلم، ولا أريد من يتسول بالعلم، فمن أذل نفسه أذل العلم الذي يحمله، ومن أعزَّ نفسه بنزاهته وترفعه عن الصغائر أعزَّ العلم ورفع من شأن العلماء في المجتمع.
وابتدأت مدرسته تستقبل في كل عام عشرات الشباب من أبناء الريف، يتعلمون العلم ويلتزمون بالعمل ويعتزون بعلمهم، ولا يحنون رأسهم طلباً لمنفعة دنيوية أو تملقاً لصاحب مسؤولية، يرفعون شأن العلم بشموخ وإباء، ويفرضون احترامهم في المجتمع باستقامتهم ونزاهتهم وثقة الناس بهم، ويكون كل فرد منهم أمة، بإيمانه بالله، وبمواقفه الصادقة التي يدافع بها عن الحق وقيم الدين الصحيحة.
اختار الشيخ قرية التويم لإقامته، وانطلاق دعوته، إلى تصحيح العادات وتقويم السلوكيات وتزكية النفوس وإصلاح القلوب، وكما اختار الشيخ «الكلتاوية» مقراً لنشاطه في الدعوة والتوعية اختار «قرية التويم» لكي تكون كلتاوية الريف في إشعاعها الديني والتربوي.
مكانة التويم في قلبه:
واتجهت الأنظار إلى تلك القرية الصغيرة، وأصبح أبناء القرى المحيطة بها يتجهون إلى هذه القرية لحضور مجالس الشيخ، والالتزام بمنهجه في التربية الروحية، وهناك عشرات القرى الممتدة من حلب إلى منطقة «المدخ» أصبحت مشدودة إلى «قرية التويم» وتزاحمت الطرقات والدروب في كل صباح ومساء، ومواكب طلاب الشيخ يتوافدون بكثافة كبيرة على القرية الصغيرة للالتقاء به والتنعّم بقربه وحضور مجالسه والالتزام بما يدعو إليه من الأخذ بآداب الشريعة وإصلاح القلوب من الأوصاف المذمومة وتصحيح العقيدة من كل انحراف.
وهكذا أصبحت كلتاوية الريف تنافس كلتاوية حلب في إشعاعها وأصبحت تنمو بقوة وسرعة كنسمات الليل تنتقل عبر السهول والوديان والجبال لا تتوقف، فالدعوة إلى الله هي دعوة إلى ما يحيي القلوب ويوقظها من غفلتها، وينبهها من سباتها، ويعيدها إلى عالم النور والضياء حيث تشرق في القلوب محبة الله، ومن أحب الله أحب خلق الله والتزم بالأدب في التعامل معهم.
لم تعد «التويم» أرضاً قاحلة كما كانت، ولم تعد أرضها تشكو الجفاف، فالشيخ لا يحتمل أن يرى الأرض تبكي عطشاً، وتضيق بملامحها الشاحبة، فلا شحوب في الحياة، فالملامح الشاحبة هي علائم الشيخوخة ومقدمات للموت، ولم يكن الشيخ يحب الاستسلام للضعف والخضوع لليأس والقنوط.
وهنا بدأت رحلته إلى البناء والتعمير، وكما لا تعمر القلوب إلا بإصلاحها فإن الأرض لا تعمر إلا بمياهها وحراثتها وتغذيتها بالأسمدة وعلاج أمراضها بالدواء الذي يطارد الأوبئة.
وقد حفر الشيخ أكثر من عشرة آبار ارتوازية على أعماق كبيرة وأخذت المياه تتدفق كالأنهار عبر الأقنية والسواقي، تسقي الأراضي وتحيي مواتها وتخرج منها ما في أحشائها من خيرات وثمرات، وأصبحت «قرية التويم» جنة وارفة الظلال، يزرع فيها القطن في مواسمه، وتجوب أرجاؤها قطعان الماشية، وتحرث أراضيها بالجرارات الضخمة، وتحصد محاصيلها بآلات الحصاد الكبيرة، وتقام فيها ورشات الإصلاح التقني، التي تشرف على تلك الأجهزة المتطورة.
كان الشيخ سعيداً بما كان يبنيه، فالعطاء واحد، والبناء واحد، من استعد للبناء في تكوينه أخذ يبني في كلّ مكان، ومن كان مؤهلاً للهدم والخراب لا وقت لديه للبناء، ومن أراد إصلاح القلوب زرع كلمة الحب في كل مكان ذهب إليه، وأنعش النفوس بما يبثه فيها من أمل وإشراق، وأحيا القلوب اليائسة بعد إحباط، وأعاد لها بسمة الحياة وإشراقة الشمس.
والذين يجدون سعادتهم في البناء لا يحتملون رؤية الهدم، ويضيقون بكل من يسعى إلى الخراب، والبناة تدفعهم هيئة راسخة في النفس لا يتكلفونها تصدر عنهم من غير تأمل وتفكير، ولا يشعرون بأنهم يبنون، ولا يمنون على أحد بما يفعلون، وهم في خطواتهم لا يرون أنفسهم، ولو رأوا أنفسهم لشغلوا بالحديث عن البناء ونسوا البناء.
ومن كلمات الشيخ أنه كان يقول: (إنَّ الشجاع لا يرى نفسه شجاعاً ولو رأى نفسه شجاعاً لشغل بشجاعته عن عدوه، ولكن الشجاع هو الذي ينسى شجاعته ويراه الآخرون شجاعاً، والسخي لا يرى نفسه سخياً وإنما يراه الآخرون سخياً، ولو رأى نفسه بهذا الكلام لتكلف الأمر وشغل به، والزاهد هو الذي لا يشغله زهده، فإذا رأى زهده شغله زهده عن الله تعالى فكان زهده حجاباً له).
ازداد اهتمام الشيخ «بالتويم» وأخذ يقضي معظم أيام الأسبوع فيها، كان يعود لصلاة الجمعة في الكلتاوية، ويلقي درس النساء في صباح السبت، وبعد الظهر كان يعود إلى التويم بواسطة القطار الحديدي الذي يمر بالتويم، ويتوقف إذا كان الشيخ فيه، ويستقبل في داره التي كان ينزل فيها ضيوفه من أبناء القرى المجاورة، الذين كانوا يفدون إليه في كل يوم، ويحضرون مذاكراته.
وأحياناً كان يرافقه لفيف من جماعته من أبناء المدينة الذين كانوا يلازمونه، ومن أبرزهم الحاج محمود الناشد الذي كان يرافق الشيخ في معظم تحركاته بسيارته التي كان يقودها بنفسه، ويزودها بكل وسائل الراحة، ويشرف على أعمال الشيخ، وكان من أكثر الناس ملازمة له، ولا يسمع لأحد أن ينافسه في ذلك.
وذات يوم أبلغ الشيخ في مقره بالكلتاوية أنَّ «قرية التويم» بكل أراضيها ومبانيها قد غرقت بسبب الفيضانات الكبيرة التي تولدت من الأمطار الغزيرة القادمة من الحدود التركية حيث أغرقت كل المناطق المحيطة بمنطقة «المدخ» المعروفة بانخفاض أراضيها، وقضت مياه الفيضان على كل المزروعات ولم تترك شيئاً، وأصبحت القرية بحيرة يسير أهلها فيها عبر القوارب.
وذهل كل من كان في مجلس الشيخ، سكت الشيخ برهة وقال «الله هو الذي يعطي والله هو الذي يأخذ.. والحكمة فيما اختاره الله» وتابع مذاكرته، وكأنه لا شيء جرى.
وبدأ من جديد يعيد بناء ما هدمه الفيضان، من غير أي كلمة تعبر عن التبرم بما وقع، إذ كان راضياً بقضاء الله، مسلماً أمره إليه جل شأنه، حامداً له فضله، لا سيما في كل المواقف العصيبة.
دروس من القرية:
في «قرية التويم» تكونت معالم مجتمع جديد، كان الشيخ ينسج ملامحه بدقة لتكوين شخصية إسلامية متكاملة، كانت القابليات موجودة والنفوس مهيأة، ومن اليسير أن تجد في مجتمع الريف ما لا تجده في مجتمع المدينة من فطرة نقية، تبحث عن ذاتها وكيانها، وتشتاق لسلوكية الكمال.
لم يكن الشيخ في أي يوم من الأيام يبحث عن طموحات سياسية أو تطلعات قيادية، كانت السياسة بالنسبة له منسية ومتجاوزة، لم تخطر بباله يوماً، ولم يفكر فيها لأنها مهمشة عنده ولذا لم يخالط رجالاتها، وما كان يحب ذلك، ولم يشجع أحداً من أصحابه أن يمارس السياسة ولم يناقش في مجالسه يوماً أمراً من أمورها، كان بعيداً كل البعد عنها وعن مزالقها.
ولم يفكر يوماً في قيادة شعبية أو زعامة، كان يكره ذلك، ويتهم من يفكر في هذا الأمر بالرجل الفارغ الذي يبحث عن ذاته من خلال الآخرين، وعندما كان يرى أحداً من جماعاته يحب تنظيم إخوانه ويعرض عليه ذلك كان يضحك ويبتسم، ويقول له: «دعك من الزعامات الفارغة، اعمل لله وقل كلمة الحق وادع إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
التويم مدرسة تربوية:
في «قرية التويم» كانت هناك نواة لمدرسة تربوية في الريف، لا تعني بالتكوين العلمي وإنما تعني بالسلوك الأخلاقي، والريف فضاء يتسع لكل إصلاح، لوجود قابليات نفسية تستجيب بسرعة لكلمة الحق، ولم تكن أمية الريفيين لتمنعهم من أن يشعروا بإشراقة الحق، ولم تكن أمية الريفيين لتمنعهم من أن يشعروا بإشراقة النور في كيانهم، لأن قلوبهم صافية كصفاء الطبيعة ونقاء هوائها، حيث لا يحدث ذلك التلوث الذي تثيره الغازات والزيوت المحترقة في سماء المدن، فالهواء النقي تعتاده النفس وتستمع به وتضيق بما يلوثه من سلوكيات الأنانية.
ومن هنا فقد أحس الشيخ بسعادة وهو يرى أثر تربيته في سلوكيات إخوانه في الريف، فانصرف إليهم واهتم بأمرهم، وأصبح يقضي معظم أيامه في «التويم»، حيث الجو النقي النظيف والفضاء الروحاني اللطيف.
قدّر لي أن صحبته يوماً من المدينة إلى التويم حيث كان يسافر في ساعة محددة بعد ظهر يوم السبت في كل أسبوع، كان يرافقه عدد من إخوانه، وكان القطار يمر بالقرى المختلفة ويعبرها من غير توقف، في كل قرية كان يقف عشرات الرجال من إخوان الشيخ يلوحون له بالتحية، وينتظرون بفرحة مرور القطار الذي يأخذه في طريقه إلى التويم، وكأنهم على موعد معه، كان منظراً مؤثراً وشيقاً يجذب الانتباه خصوصاً حين كان الشيخ يلوح بيديه لإخوانه بفرحة وابتسام.
وفي هذه الأثناء نظر الشيخ إلى وجهي، ورأى دمعة محبوسة في عيني، أمسكت بها لكيلا تنزلق على خدي، ولكي لا يراها الشيخ، حينها سألني عما يثيرني، قلت له: أخشى مما أرى، وأخاف منه، وهناك من لا يرغب في ذلك، ويرقب الأمور.
وبدأت خلافات صغيرة بين إخوان الشيخ، بين عائلات متجاورة ومتنافسة، كان الشيخ يمسك بمقود الأمور ولا يسمح بتجاوز مبدأ الأخوة والمودة والالتزام بالتسامح المتبادل وحل كل خلاف بالحوار الأخوي الهادىء، وتدخلت أيادي خارجية ألهبت هذا الخلاف وعمقته ورسخت القطيعة بين أخوة الأمس.
وحزن الشيخ وتألم، كان يريد لإخوانه أن يكونوا متحابين متعاونين، تجمعهم الرغبة في إخلاص النية، وإصلاح النفوس، واشتد الخلاف وأصبح عميقاً، وترك الشيخ القرية عائداً إلى المدينة، وكان يحذر من تغير القلوب، فإذا تغيرت وزالت المحبة منها تمسكت بالدنيا، ووقع التزاحم والتدافع، ولا شيء كان يؤلمه مثل هذا التدافع المذموم لأجل مطامع دنيوية.
وأدرك الجميع أن المطلوب هو إبعاد الشيخ عن إخوانه، وإشغاله بما كان لا يحب الإنشغال به، ووقعت مواجهة قاسية بين الجماعات المتخاصمة، أدت إلى ابتعاد الشيخ عن القرية.
وعاد الشيخ إلى الكلتاوية كما كان من قبل، وظل إخوانه في الريف على وفائهم له وملازمتهم لمجالسه، ولم يحزن الشيخ أو يتألم بالرغم مما أصابه من أضرار كبيرة.
وسألته بعد ذلك عن سر هذا الابتلاء والاختبار، وهو ابتلاء شديد آلمه وأحزنه.
أجابني بلهجة المؤمن بالله الراضي بقضائه:
(هذا الابتلاء ليس لي، فأنا راض بقضاء الله وحكمته وتدبيره، وإنما هو ابتلاء لإخواني، فمنهم من يصبر عليه ومنهم من تتقلب قلوبهم، وأخذ يردد: يا مقلب القلوب ثبتنا على ما اخترته لنا، واشرح قلوبنا لفهم أسرار حكمتك وتدبيرك).
لم يذهب الشيخ إلى التويم بعد ذلك... عادت كما كانت من قبل.. غربت شمسها بعد يوم ربيعي جميل، وأقبل الليل بظلامه الدامس، ولم يبق سوى أطلال ملقاة هنا وهناك وذكريات قافلة النور حلّت قليلاً ثم ارتحلت وغابت خلف الأفق بكل ما تحمله من مشاعل الأمل والنور.
نتائج عمله في الزراعة:
لم يعمل الشيخ في الزراعة طمعاً في الكسب، كان القليل من المال يكفيه لحياته، وإنما كان يحب العمل بحد ذاته كواجب على الإنسان أن يقوم به تعبيراً عن احترامه لذاته، وشعوراً بوجوده الإنساني.
فالآيات القرآنية تدعو المؤمنين إلى العمل والسعي في الأرض لابتغاء الفضل من الله تعالى،
قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}
وقالى تعالى{فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}
ومن تعاليم الدين أن يسعى الإنسان في شؤون المعاش، لكي يستغني عن الناس، ولكي يكون صاحب اليد العليا وليست السفلى ويعطي ولا يأخذ، يعف عن أموال الآخرين، ويأكل من كسب يده، والعمل من العبادة، وهو عبادة إذا قصد بالعمل الاستغناء عن الناس، والذين يفهمون أن العبادة هي قعود عن العمل يخطئون، فمفهوم العبادة أشمل وأعظم، وكل عمل في سبيل الله فهو عبادة، وغايتها الأقرب الاستغناءعن الناس، ومن مروءة الإنسان ألا يشعر بحاجته للآخرين ولو كانوا من أسرته الأقربين.
والعلماء هم أولى الناس بالاستغناء عن الناس، ومن شعر بحاجته للناس أحس بالذل والهوان، والعالم الذي يمد يده إلى الناس سرعان ما يفقد هيبته وشعوره بالكرامة، والاستغناء عن الناس هو طريق السيادة، ولا سيادة مع الشعور بالافتقار للناس.
ولا تعارض بين الاشتغال بالعلم والعمل، والعلم الذي لا يشعر صاحبه بالكرامة والعزة والسيادة ليس علماً وإنما هو وسيلة معاش.
وغاية العمل هو تحقيق الكسب وجلب الرزق المقسوم الذي يرزق الله به عباده، لأجل إغناء النفس، وليست غايته الاكتناز والادخار، فالمال ليس غاية بذاته وإنما هو وسيلة لتحقيق الكفاية ومساعدة المحتاجين.
ولم يكن الشيخ يشجع العلماء على التعيش بعلمهم والتنافس في الوظائف الإدارية وإنما كان يشجعهم على العمل المنتج، في التجارة أو الصناعة أو الفلاحة، وأي عمل في نظره يستحق الاحترام والعامل محترم، وله أجر العمل وثوابه، وليس في العمل درجات اجتماعية، فالعامل يكرم لأنه كسب من جهده، ومن افتقر للناس بسبب كسل أو ترفع فلا يستحق الاحترام وإلا إذا كان بسبب عجز مانع من العمل.
وكان يفضل الزراعة على التجارة، لأن الزارع يحرث الأرض ويزرعها ويعتمد على الله ويتوكل عليه، فيزرقه الله الكسب الحلال الذي لا شبهة فيه، بشرط ألا يكون في عمله ظلم لجهد الآخرين واستغلال لتعبهم وشقائهم، وكان يرى أن الأجر يجب ألا يقل عن كفاية الإنسان لحاجاته الضرورية، فمقدار الحاجة مكفول، وما يرتبط باستمرار الوجود الإنساني مضمون.
ومن أبرز شروط العمل المشروع التعامل بالإحسان، لأن الله تعالى أمر بالعدل والإحسان، والإحسان هو أن يرعى القوي حقوق الضعيف، فلا يحاسبه بالعدل فقط، وإنما بالإحسان إليه، والتنازل عن بعض حقوقه في الديون إذا كان الضعيف معسراً وفقيراً.
وكان من عادة الشيخ عندما يشتري شيئاً أن يتنازل للبائع الضعيف عن الباقي، ويقول له نحن أولى منك بأن نتنازل لك، ويدعو أصحابه إذا اشتروا شيئاً من ضعيف أن يسامحوه في الباقي، لأنه أولى بالزيادة في الكيل والميزان، ويردد أن خير الرجال هم أحسنهم قضاءاً لحقوقهم، وأكثرهم إنصافاً.
وأهم ما يجب أن يتحلى به الإنسان في شؤون كسبه أن يقصد من وراء ذلك ليس الكسب، وإنما أن ينوي إعفاف النفس عن الحاجة والافتقار، وألا يشغله أمر دينه عن أمر آخرته، فمن شغلته دنياه عن آخرته خسر الدنيا والآخرة معاً، وأسوأ الصفات التي يجب التحرر منها هو الطمع في مال الآخرين والطمع يدفع صاحبه للطمع في كسب الحرام.
وكان يحذر من الطمع في الأموال العامة التي تعود ملكيتها للمجتمع كله، ولا يجوز الأخذ منها إلا بمقدار الحاجة، لأنها أموال المسلمين قاطبة والطمع يلوث القلب ويجعله مظلماً.
ويتحدث في مجالسه عن التاجر الحق، وهو الذي يلتزم بأخلاقية التجارة فلا يكذب ولا يغش ولا يطمع في أموال الناس ولا يذل نفسه، ويتعامل مع الناس بالحسنى والوضوح والثقة، ويندد بالتويجر الذي لا يحترم أخلاقية التجارة، ويستدين ولا يحسن تقدير الأمور فيقع في المخاطر ويعرض نفسه للمساءلة.
لقد اختار الفلاحة لعمله، وكان خبيراً بشؤونها، مستمتعاً بما تخلفه في النفس من مشاعر التوكل على الله، وكان يرى في كسب الفلاحة أنها بعيدة عن الريبة والشبهات.
لم يضق يوماً بالفلاحة أو يتجاوزها بالرغم من غدر الفلاحة بسبب الكوارث الطبيعية كالجفاف والفيضان وظهور الأوبئة في المزروعات، ولم يختر طريق التجارة التي كانت ميسرة له بفضل خبرة معظم إخوانه بها.
وفي الفلاحة ربح الكثير وخسر الكثير، ولم يبتهج لربح ولم يحزن لخسارة، كانت الكفاية حاصلة، والفضل مردود على المحتاجين.
الثروة الباقية
كان معظم الناس يظنون أن الشيخ يملك الكثير، وأقرب الناس إليه كانوا يعتقدون ذلك، والقليل من إخوانه الذين يلازمونه كانوا يعرفون الحقيقة، وهي حقيقة لم تكن تهم الشيخ أو تجري على لسانه، لم يقل يوماً: أنه يملك أو لا يملك ولم يسأله أحد عن ذلك.
وعندما انتقل إلى رحاب الله كان مديناً بالكثير، ولم يكن كل ما يملكه يفي بذلك الدين... لم يكن يملك داراً لنفسه، أو لأحد من أولاده، ولم يترك لهم شيئاً، ترك عقاراً ورثه من أبيه، وظل محتفظاً به، وترك قطعة أرض زراعية، وكان عليه ديون، وأوصى قبل وفاته بأن توفى ديونه مما يملك من هذين العقارين ولكن أصحاب الديون لم يقبلوا باسترداد تلك الديون.
أما الإرث الذي تركه لأسرته، فهو ذلك الإرث العظيم الذي يزداد ولا ينقص، مهما أنفقت منه، فالأموال تذهب والعقارات تنقل ملكيتها، أما الإرث الذي يدوم فهو ذلك الصرح العظيم من المكانة والسمعة ومحبة الناس، ويكفي أسرته فخراً واعتزازاً أن يسمعوا صباح مساء ما يسعدهم من أفواه المحبين وأن يروا بعيونهم ابتسامات إخوانه من الذين يلازمون الكلتاوية ويزورون ضريحه في كل يوم.
وبالإضافة إلى هذا الإرث الكبير فهناك القاعة التي عاش فيها حياته، ما زالت باقية في الدار التي كان يسكنها إلى جانب الكلتاوية، بكل ملامحها وأشيائها، لم يتغير شيء فيها، فملامحها تدل على شخصية الشيخ.
كيف كانت، وما أهم اهتماماته، وأشياؤها تدل على اسلوب حياته.
أهم ما كانت تضمه تلك القاعة مكتبة صغيرة تحتوي كتبه، وكانت عزيزة عليه، لم يفرط فيها، وتضم أهم المراجع في التفسير والحديث والفقه والأصول، وأما أشياؤه الأخرى فهي قليلة جداً، وهي ما كان يحتاج إليه لاستعماله اليومي، وأهمها سريره الذي كان ينام عليه، وكنبة متواضعة كان يجلس عليها زواره، وطاولة عادية صغيرة يضع عليها ما يحتاجه في كل يوم، خاتم عقيق كان يلبسه بإصبعه، ومقص صغير يقص به أظافره، وزجاجة من عطر الورد كان يتطيب بها، وكرسي يجلس عليه عندما يأتيه الحلاق فجر كل يوم جمعة، ولوحات للمسجد الحرام وأخرى للمسجد النبوي ولا شيء غير ذلك.
كان يضيق بأي شيء آخر، ولا يحتاج إليه، وإذا جاءه شيء مهما كان يوزعه مباشرة، فلا يحتمل أن يشغل نفسه بغير ما يحتاج إليه.
في غرفته تلك كان يستقبل كل زواره، كباراً وصغاراً، لم يفكر في إرضاء أحد فهذا هو كما يدل على نفسه، وفي ضريحه في الكلتاوية توجد بعض ملابسه الخارجية التي اشتهر بها، الجبة البيضاء في صفائها ونقائها.. وهناك العمامة أيضاً فضلاً عن مئات الأشرطة المسجلة من أحاديثه.
هذا هو إرثه وهو إرث لا تملكه أسرته، وإنما يملكه كل إخوانه ومحبيه، رحل الجيل الأول منهم، وبقيت أجيال تتعاقب وتتوارث هذا الإرث العظيم.