رحلة الحج الثانية

أدى الشيخ النبهان فريضة الحج لأول مرة في مرحلة شبابه ، عندما اختار طريق العلم ، ولا أعرف الكثير عن هذه المرحلة من حياة الشيخ لأنني لم أشهدها .
وكان الشيخ يرغب في الحج للمرة الثانية ، وأعرب عن هذه الرغبة إلا أن ذلك لم يتم إلا عام 1965 ، لم أرافقه في هذا الحج ، كنت وقتها في القاهرة أتابع دراستي في قسم الدكتوراه ، ولم يتسير لي أمر مرافقته ، كان ذلك مما تألمت له فيما بعد .
في هذا العام عزم الشيخ على رحلة الحج ، وما أن علم إخوانه بذلك حتى سارع عدد كبير منهم لاستئذان الشيخ في مرافقته ، كان أمراً شاقاً من الناحية التنظيمية ، ولم يكن من عادة الشيخ أن يقول :لا في مثل هذه المواقف ، هناك من هو قادر ويملك الاستطاعة البدنية والمادية ، وهناك من لا يملك تلك الاستطاعة .
كان الشيخ يعرف مشقة ذلك ، كانت أسرته كبيرة ، والتي تضم كل إخوانه ، وكلهم من المحبين ، ولا يمكن إقصاء أحد مهما كانت الظروف . . وابتدأ الإعداد للرحلة .
وارتفع النداء في القلوب يردد قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )الحج : 27
بلغ العدد خمسمائة رجل وامرأة من إخوان الشيخ ، كلهم يريد مرافقته في رحلة الحج هذه ، هناك من يملك الاستطاعة وهناك من يملك نصف الاستطاعة أو ربعها ، وهناك من لا يملك أي شيء ، ولم يكن من عادة الشيخ أن يفكر أو يدبر ، وكان يقول في مجالسه ومذاكراته بأن الله تعالى هو المدبر لشؤون مملكته ، وكما أن العبد قد سلم لله أمر تدبير ما خلقه في الأرض والسماء من شؤون الكون فيجب التسليم له في شؤون الخلق ، والله تعالى هو قيوم الأرض والسماء والذين خرجوا عن التدبير وسلموا أمرهم لله ، تولاهم الله بالحفظ والتمكين ، والإنسان مطالب بألا يشغل قلبه بشؤون التدبير فيما تولى أمره من شؤون خلقه ، وعندما يكون العبد في ضيافة الرحمن فالله يتولى تدبير الأمور.
ولما سألته يومأ عن إسقاط التدبير مع الله تعالى التي كان يكررها في مجالسه وأن الأخذ بالأسباب أمر شرعي لابد منه ، ابتسم وأجاب وقال لي : يا ولدي : التدبير من أمر الله ومن شؤونه التي اختص بها ، ولا يملك العبد القدرة على إسقاط تدبيره إلا بعد المجاهدات ، فمن لم يصل إلى درجة اليقين به وهي درجة قلبية فلا يجوز له إسقاط تدبيره لأن قلبه مرتبط بالأسباب .
كنت أتذكر هذه الكلمة في مواقف كثيرة من حياتي ، وإسقاط التدبير هو ثمرة الإيمان بالله والتوكل عليه ، فمن أقامه الله في الأسباب وجعل قلبه منوطاً بتلك الأسباب ، فمن الخطأ ألا يعمل عقله في الأسباب وألا يُعد لها الإعداد الكامل ، فإذا لم يفعل فسرعان ما يندم ويضعف يقينه .
انطلقت رحلة الحج هذه من حلب بالحافلات مارة بدمشق وعمّان إلى أن وصلت إلى ميناء العقبة ، وهناك استقلت القافلة الباخرة إلى جدة ، كان الشيخ خلال هذه الرحلة يطوف بالقافلة ، ويشرف على شؤونها ويساعد العاجز والمريض والمسن ، وكلف الشيخ علاء الدين علايا بأن يشرف على شؤون النساء ، وكان من العلماء المشهود بالتقى والورع والاستقامة وكلف الطفل الصغير محمد الرشواني أن يدخل إلى أماكن النساء لنقل رغباتهم ، وإبلاغها إلى المشرفين على شؤون الرحلة .
كان كل واحد من إخوانه يقوم بمهمة خاصة ، يخدم بها إخوانه ، فريق كلفه الشيخ بالإشراف وفريق لنقل الأمتعة وفريق للعناية الصحية وآخر فريق لقيادة القافلة وتوجيه سيرها ، ومنهم فريق تفرغ للتوعية والتعليم من الرجال والنساء ، وكان الشيخ يشرف على كل صغيرة وكبيرة ، يرعى الجميع ويساعد الجميع ويخدم كل إخوانه في الليل والنهار ، في السفر والإقامة .
وكان الكل يشعر أنه محمول ، والكل يشعر أنه خادم ومخدوم ، وأكبر الرجال مقاماً يخدم أخاه ولو كان أقل منه مكانة في نظر المجتمع ، والسيد هو الذي يخدم الآخرين ويحمل أعباءهم .
استقبلت القافلة في جدة بالترحيب والتقدير ، ودعا المسؤولون في المملكة العربية السعودية الشيخ أن يكون في ضيافة الملك فيصل الرجل التقي الصالح ، شكرهم الشيخ وأبلغهم أنه منذ خرج من موطنه اعتبر نفسه في ضيافة الله ، ولا يمكنه أن يقبل أي ضيافة أخرى ، وأنه يريد أن يكون في هذا الرحلة عبداً لله تعالى وأن يشعر بهذه العبدية في جميع المناسك . وقال كلمة : (ما كان للعالم الحق أن يقف على باب أحد ولو كان أميراً)) .
بقي الشيخ مع إخوانه لم يفارقهم ولم يبتعد عنهم ، هم أسرته ، ولا يمكن لرب أسرة أن يغادر أسرته ويجد لذته في مكان آخر ، إلا إذا ضاق بهم أو ضاقوا به فأزعجوه وأرغموه على مغادرتهم .
وأخذ الشيخ يعلم أصحابه آداب الحج وأهمها :
ا _ أن يستشعروا عظمة الله تعالى في هذا المكان العظيم وهيبته ، وأن يتذكروا أنهم غادروا بلدهم تلبية لنداء الله تعالى وإجابة له وطاعة لأمره ، وأن يروا الله تعالى في كل خطوة من خطواتهم وأن يستحضروا هيبته في قلوبهم ، وأن يرددوا بقلوبهم قبل ألسنتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك . . .
2 _ أن يبتعدوا عن الرفث والفسوق والجدال في سلوكهم الظاهر وفي خواطر قلوبهم ، وألا يقوموا بأي عمل يورث الأحقاد والضغائن في النفس ، وأن يلتزموا بحسن الخلق في كل ما يصدر عنهم .
3 _ أن يجردوا قلوبهم من كل المشاغل الدنيوية ، وما تطمع فيه النفوس من الملذات والشهوات ، وأن ينصرف اهتمامهم إلى تعظيم الله عن طريق أداء الشعائر والمناسك بتمامها وكمالها .
4 _ أن يقبلوا على الله تعالى باستشعار تحققهم بصفة العبدية وما تتطلبه من شعور الافتقار إلى الله والابتعاد عن مظاهر الزينة والتفاخر والتكاثر ، وأن يمد القوي يده لمساعدة الضعيف والغني لمساعدة الفقير والكبير لمساعدة الصغير .
5 _ أن يرفعوا أيديهم إلى الله تعالى بالدعاء الصادق والاستغفار مع استشعار الخشية من الله والرجاء فيه ، إظهاراً للعبودية والقيام بحق الربوبية .
كان الشيخ يخرج للطواف ، يرافقه إخوانه ، يؤدون مناسك الحج بالتزام كل الآداب ، وأهمها الأدب مع الله تعالى وأداء العبادات بكل شروطها الشرعية ، حتى اشتهر أمرهم في مكة ، وأخذ الحجاج يتساءلون عن هذه الطائفة التي أقبلت على الله بكل الصدق والإخلاص .
وأخذت الشخصيات المختلفة تزور الشيخ في مقر إقامته ، وتسمع كلامه ، وهو يتحدث عن آداب الحج وأدب العبادة .
وعندما كان يخلو مجلسه من الناس ليلاً كان يصلي ويتضرع إلى الله ، ويستغفره ويبكي كما اعتاد أن يفعل في صلاة تهجده ، ولم أره يبكي إلا في الصلاة وفي لحظات الاستغفار والدعاء .
وكان لسان حاله في الليل يردد أبياتاً سمعها كل من كان يحضر مجالسه ، وحفظتها منه منذ طفولتي :
وليتك تحلو الحياة مريرة * زليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين * وكل الذي فوق التراب تراب
كان يقول لإخوانه : لكل عبادة ثمرة ، والحج عبادة ، ولابد من العودة بثمرة الحج ، فالحاج يجب ألا يصرف همه إلى رؤية الآثار الظاهرة ، وإنما يجب عليه أن يرى ببصيرته عظمة ما يعنيه الحج وما تثيره في النفس مناسكه في الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة من مشاعر وأحاسيس وعواطف تنعكس على السلوك ، فهو يقف بخشوع وآداب أمام بيت الله الحرام ، وعليه أن يرى الخصوصية ، ولا يمكن رؤية الخصوصية بالبصر وإنما بالبصيرة واستحضار الهيبة من الله تعالى .
وأهم ما ينبغي استشعاره أن يأتي إلى الحج لا بزاد من المؤونة والغذاء ، وإنما بمؤونة من العواطف والأشواق ، ولا يشعر العبد بالشوق إلا بعد التحقق بخصوصية الفهم عن الله والمعرفة التي يولدها الأدب مع الله تعالى ، والأدب ثمرة المحبة ، فمن أحب الله التزم بالأدب معه ، ومن التزم بالأدب وصل إلى المعرفة والفهم .
وما يجب على الحاج أن يلتزم به أن يأتي ربه متجرداً عن كل ما اعتاد عليه ، ويرتدي ملابس الإحرام المعبرة عن هذا التجرد والدالة على الافتقار إليه تعالى والتحقق بصفة العبدية الخالية عن كل تطلع داخلي إلى التفاخر بالنسب والمال والعلم والسلطة .
لم يكن الحج في نظر الشيخ رحلة من مكان إلى مكان ، ومجرد قيام بعبادة كبقية العبادات البدنية ، وإنما هو رحلة إلى الله ، وهذه الرحلة لابد من إعداد العدة لها ، وأهمها التوبة عن كل ما اقترفته النفس من ذنوب ، ومن تقصير بحق من حقوق الله ، والتوبة ليست كلمة وإنما هي شعور قلبي بالندم على كل ذنب من الذنوب التي ترتكب في أوقات الغفلة ، والغفلة عن الله هي الذنب الأكبر فمن غفل عن الله ارتكب الذنوب والآثام ولم يشعر بندم وأسف ، وهذا دليل على موت القلب ، فالقلوب الحية تتألم لما يخالف فطرتها وما يعكر صفاءها فإذا ماتت القلوب قست شرايينها ، ولم تعد تضخ الدماء النقية المشبعة بأسباب الحياة.
واستقبل الشيخ في مقره كبار علماء مكة ووجهائها ، وكبار الشخصيات الإسلامية التي حجت في ذلك العام ، كان الشيخ يخصهم بالتكريم ، ويرد لهم الزيارة في منازلهم ومن أبرز هؤلاء الشيخ عباس علوي المالكي والشيخ محمد العربي التباني والشيخ أمين الكتبي وغيرهم ، من أعلام مكة ، وكان إخوان الشيخ يحيطون به ويرحبون بضيوفه ويستقبلونهم أحسن استقبال . ( انتهى من كتاب الشيخ النبهان للدتور محمد فاروق النبهان )
وتحدث الشيخ هشام الألوسي في كتابه السيد النبهان عن هذه الرحلة فقال :
إلى الحجـاز : 1384هـ 1965م
من حلب إلى العقبة بالسيارة، ومنها بالباخرة إلى جدّة، واصطحب من أتباعه مائتين وأربعين رجلاً ومائة وستين امرأة. في الباخرة جاءه أحد أصحابه رضي الله عنه في السفر فقال له: سيدي، اثنان من العلماء من أهل الفهم من أهل اللطافة يطلبان الاجتماع بجنابكم.. فدخل رضي الله عنه عليهما وجلس فقال أحدهما: شيخي، نحن أنفسنا غالية، لا نسلّمها لله تعالى إلاّ بالجنّة (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة ) [التوبة 111] . قال : ( الحق معك لأنّك مالك، أما أنا ونفسي فملك لله ) فسكتا ولم يجب منهما أحد!!.
في ميناء جدّة
كانت حشود العلماء والأمراء والوجهاء باستقباله بينما أطلقت أبواق الميناء نداءً: الشيخ محمّد النّبهان وصحبه في ضيافة الملك .كان ذلك على عهد الملك فيصل آل سعود رحمه الله تعالى.
في مكّة المكّرمة حدث الشيخ ياسين بن عبد الرحمن ويسي من قرية أبي ظهور في أرياف حلب قال: رافقت سيدنا رضي الله عنه في حجته الثانية وفي مكة المكرمة وفد عليه أميرها يحمل رسالة من الملك فيصل ال سعود ملك المملكة العربية السعودية مؤلفة من سطرين ونصف وموقع عليها منه يقول له فيها بعد ترحيبه بقدومه (أنتم ومن معكم في ضيافتنا وأنني بانتظار الاجابة) فاعتذر رضي الله عنه شاكراً، وقال له أنا ضيف على رب هذا البيت. وإنّنا في ضيافة ملك الملوك.
ثم مضت أيام فسمعت سيدنا رضي الله عنه يتحدث بما نقله له الشيخ الدكتور معروف الدواليبي المقرب لدى الملك آنذاك ومستشاره فيما بعد قال لما وصل جواب سيدنا رضي الله عنه الى الملك قال الملك فيصل رحمه الله للشيخ معروف الدواليبي (يا بيك والله هؤلاء هم الملوك ما هو نحن الملوك وهؤلاء لا ينازعهم على ملكهم أحد)
وفي رواية أخرى عن أحد شيوخ عشيرة نواف الصالح في قرى حلب كان حاضرا المجلس فسمع الملك يقول (والله يا وليدي هو الملك ويا ليتني تشرفت بخدمته). واستأجر رضي الله عنه بناية من أربعة طوابق، جعل النساء في الطابق الأعلى، وعيّن صبياً في الثانية عشرة من عمره حلقة وصل بين الرجال والنساء وهو الشيخ محمّد رشواني.
حدّثنا الشيخ عمر الملاّ حفجي واعظ سجن حلب وأحد مرافقيه في السفر قال: لم يبق عالم من علماء مكة وشيوخها إلاّ زاره في العمارة التي نـزلها، منهم شيخ شيوخ مكة محمّد العربي التباني، والشيخ أمين الكتبي، والشيخ حسن المشّاط، والشيخ محمّد نور سيف، والشيخ علوي بن عباس المالكي، وردّ لهم الزيارة في منازلهم .
أثناء الطواف.. وبعده

قال رضي الله عنه : ( وجدت قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم معلَّقاً بالكعبة، كما وجدت قلوب الأنبياء والمرسلين معلَّقة بالبيت الحرام.. سرّ الكعبة المشرّفة هو الحجر الأسود، كما أنَّ أسرار القرآن الكريم في الفاتحة! ورأى أثناء طوافه رجلاً أسود يشير إليه ويصيح: ( ليلى، ليلى)!!. وظلّلته الغمامة ذهاباً إلى الرجم وإياباً منه، وذكر رضي الله عنه هذه المسألة في درس مسجّل، وهي من موافقات الوراثة المحمّدية .
وفي حرم مكة في المحل المخصص للملوك والأمراء جلس الوزراء والأمراء والحاضرون معه فاستلم المجلس شيخ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال له رضي الله عنه : آخرسْ! الّذي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بحاله وقاله ولا يصافح النساء! ثمّ ابتدأ رضي الله عنه مذاكرة وأطال الحديث مع الحضور، فصاروا يتحدثون فيما بينهم: هل في الدنيا مثل هذا الرجل!؟.
وحين رجع رضي الله عنه إلى البناية التي يقيم فيها كان مُحْمَرَّ الوجه! وقال : أولادي، هذه المرتبة الحق عز وجل وضعها عندي أمانة، لابدّ أن أحميها وأحفظها .
مع الشيخ علوي بن عباس المالكي
حدّث الشيخ عبد الله حديد الفرضي في جامع الفلوجة الكبير بالعراق، قال: حضرت بمكة المكرمة مجلساً لسيدنا النّبهان رضي الله عنه، وبينما نحن جلوس صعد إلينا شيخ مهيب الطلعة وهو ينشد:
طـلـع البــدر علـيـنــا مــن ثنـيّــات الــوداع
فظننته سيدنا الخضر عليه السلام! وحين دخل وسلّم قال: يا شيخ، أرسلت لك سلاماً مع الريح! قال رضي الله عنه : (: وصلني)! فتحدثا ساعةً، ثمّ نهض وقال : هنيئاً لكم بصحبة هذا الشيخ، أرجو المعذرة يا شيخ، لقد أسأت الأدب معكم . ثمّ ودّعه وخرج! فسألت عن الرجل، فقالوا: إنه الشيخ علوي بن عباس المالكي، مفتي المالكية بمكة المكرمة .
مع الشيخ سليمان الواعظ بمكة المكرمة
عراقي كفيف البصر، مشهور بالولاية مجاور في المدينة المنورة يقول الشيخ هشام الألوسي رأيته في الحرم النبوي الشريف سنة1401هـ - 1980م يعلّم ولديه الإملاء ، يحرّك إصبعه على الكلمات فإذا وافق خطأ توقّف! وقال: ضع الهمزة على الواو أو منفردة أو.. الخ!
وللرجل كرامات كثيرة منها رابطته القلبية بسيدنا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه يتوجه بها على جلسائه من الأولياء والعلماء فيحيط بهم ويقفل على أفواههم بتلك الرابطة الشريفة فلا يتحدث أحد في المجلس سواه.
وحينما جلس مع السيّد النّبهان رضي الله عنه بمكة المكرمة حاول معه فلم يفلح! بل سكت ولم يقل شيئا، وبقي سيدنا رضي الله عنه يتحدّث، فما كان من الشيخ الواعظ إلاّ أن رمى بنفسه على قدمي سيدنا يقبّلهما!. ثمّ لحق به رضي الله عنه إلى حلب وذكر له قصته هذه، فقال رضي الله عنه : ( لا يستطيع أحد أن يحيط بي؛ لأنني ليس لي وجود) !! وفي رواية أخرى : جاءنا بعبد القادر فجئناه بالقادر .
كاتبنا الشيخ علي أحمد مشاعل قائلا: اجتمعت بالشيخ سليمان الواعظ رحمه الله تعالى في الحرم النبوي الشريف مرّات كثيرة، وذكرت له هذه القصة كاملة، وما جرى بينه وبين سيدنا النّبهان رضي الله عنه وهو مطرق رأسه يسمع ويتأثر، فقال لي: أعدها علي مرة ثانية، ثمّ قال: نعم نعم، هذا ما جرى بيني وبين الشيخ رضي الله عنه .
في المدينة المنوّرة

فقد استاجر رضي الله عنه عمارتين متقابلتين واحدة منها لمن صحبه في حجته رضي الله عنه من ارياف حلب واما الثانية فقد جعلها له ولمن صحبه من داخل مدينة حلب وعددهم بعدد اهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر حاجا ثمّ تكامل العدد فيما بعد حتى اصبحوا اربعمائة مائتان وستون منهم رجالا ومائة واربعون نساءً ثمّ عزم رضي الله عنه ألا ّيطأ أرضها بمداسه،
حدّثنا الشيخ عمر الملا حفجي قال : رجوت سيدنا أن لا يخلع حذاءه فأجابني رضي الله عنه : نحن لسنا أفضل من الإمام مالك رضي الله عنه فقلت : سيدي إن شوارع المدينة ليست على ما كانت عليه أيام الإمام مالك، وإنها مزفّتة و .. و.. فعدل عن رأيه!
ماذا في حضرة المواجهة؟
ذهب رضي الله عنه إلى البيت فاغتسل وأستبدل ثيابه وتطيّب، وقبل أن يدخل المسجد النبوي قال لأصحابه: أولادي، هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هنا أدب، لا مشيخات ولا تقبيل يد!
ودخل رضي الله عنه المسجد النبوي الشريف من باب السلام، فنهض كل من في الحرم.
وتقدّم إلى حضرة المواجهة الشريفة مستقبلاً وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام، دون أن يمسّ الشبك بيده فجاءه أحد الحرّس فقبّل يده وقال : أستاذ تقدّم! خلافاً لما هو مألوف هناك من الشرطة , قال رضي الله عنه : ( عندما تأدّبت مع الرسول صلى الله عليه ووسلّم تأدّب معي الشرطي) وقال : أستاذ تقدّم .
حدّث الشيخ عمر الملاّ حفجي قال: نظرت فإذا بأخينا الحاج عبد اللطيف أبودان قد سقط مغشياً عليه وهو يرتعش! فأخذت بيده، فلما أفاق قلت : أسألك بالله وبمحمّد رسول الله إلاّ حدّثتني بما شاهدت من الأنوار! فقال : والله يا شيخ عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج من غرفته الشريفة فعانق سيدنا النّبهان، ولا أدري ما بعدها!
وعن حالة المواجهة هذه سأله الشيخ عبد العزيز السالم السامرائي من العراق : سيدي لمّا وقف سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه في حضرة المواجهة سلّم على رسول الله صلى الله عليه ووسلّم وأنشد:
في حالة البعد روحي كنت أرسلهـا * تقبّـل الأرض عني وهي نائبـــتي
وهذه دولة الأشباح قــد حضرت * فامدد يمينك كي تحظى بها شــفتي
فامتدّت له يد المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقبّلها وبايعه بيعة كلية، فكيف كان الأمر معكم ؟ قال رضي الله عنه : ( كان أعلى وأجلّ) .
وعلّق على البيتين فقال رضي الله عنه :
( وأنا أقول دولة الأرواح لا دولة الأشباح .وعن رؤية سيدنا الرفاعي رضي الله عنه قال : كانت الرؤية بعين البصيرة لا بالبصر ) .
وفي اليوم التالي كانت زيارة النساء لحضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ليلاً، فأخلي الحرم الشريف لهن، فلمح رضي الله عنه عقيداً من الشرطة في إحدى جهات الحرم فصرخ به: من؟ . قال: سيدي، هذا مفتاح الحجرة النبوية إذا أحببتم دخولها .
قال رضي الله عنه : ( ليس بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه ووسلّم حجاب ).
ضيافة محمّدية
حدثنا الشيخ زياد زايد الموجه في دار نهضة العلوم الشريعة في حلب قال حدثنا الاستاذ حسان فرفوطي احد اصحاب سيدنا ومرافقيه الى الحج انه سمع سيدنا محمّد النّبهان يقول: خرج الينا في المدينة المنورة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ابو بكر الصديق وكان سيدنا الصديق يحمل طبقا فيه تمر فاطعمنا منه بيده الشريفة واني الى الان لاجد طعم تلك التمرات تحت ضرسي.
وأمضى رضي الله عنه في المدينة المنورة شهراً قبل الحج وبعده ولم يبق فيها شيخ إلاّ زاره في المبنى الّذي يقيم فيه، منهم الشيخ إبراهيم الختني، والشيخ عبد الغفور العباسي، والشيخ عناية الله البخاري، والشيخ المحدّث الكبير محمّد بدر عالم صاحب شرح البخاري ، والشيخ زكريا البخاري، وردّ لهم الزيارة في منازلهم. زيارة للبقيع زار رضي الله عنه أهل البقيع، ووقف عند مرقد سيدتنا فاطمة الزهراء البتول رضي الله عنها ا وتحدث بعد ذلك فقال: كنت أظن أني أحب السيّدة فاطمة الزهراء كثيرا، فرأيت أنها تحبني أكثر، وما كانت تناديني إلا: يا ولدي، أهلا بك يا ولدي.
ومع الشيخ أبـي الحسن الندوي قال رضي الله عنه : ( جاءني أبو الحسن الندوي في المدينة المنورة ودعاني لبيته ).
حدّثنا الشيخ عمر الملاّ حفجي قائلاً: فلمّا وصل سيدنا رضي الله عنه ضحوةً جلس وصحبه حول بركة ماء، فنظر فيها رمالاً وأوراق شجر قد تجمعت، فنهض مشمّراً عن ذراعيه ينظّف حوضها، قال الشيخ الندوي: لا يا سيدي نحن ننظّفها، قال رضي الله عنه : ( يا أبا الحسن، الصوفي ظاهره النظافة وباطنه اللطافة) .
قال الندوي: إني رددت على من قال: الصوفية والبطالة توأمان، قال رضي الله عنه : ( الصوفية والبطالة لا تتلاءمان،) فقال الندوي: كنت أظن أن الصوفي هو البطال، فأفهمتني أنت الآن أن الصوفي هو صاحب النشاط حقا، قال رضي الله عنه : ( ذلك هو المتصوف، أما الصوفي فلا).
عودة إلى حلب
وبعد أن أمضى رضي الله عنه خمسة وخمسين يوماً في الديار المقدّسة رجع إلى بلاد الشام .
وأثناء العودة في الباخرة: بلغه رضي الله عنه أن إحدى البنات الأبكار أصيبت بحصر بول، والطبيب المختص يرى أنها بحاجة إلى جراحة لكنها تزيل البكارة، قال رضي الله عنه : ( أنا عقلي طار! قلت: يا طبيب، خذ ما تريد: عشرة آلاف..مائة ألف.. كم تريد قل، وهذه المسألة لا تصير، قال: لا يمكن! أعماني أعماني! كل شيء سهل بالنسبة لهذه، فخرجتُ.. وإذا بواحد يلحق بي قال لي: انفرج الأمر وانصرف الأذى.. قلت: الحمد لله، فعملتُ مذاكرة وأنا مسرور، مسرور من الله تعالى )..!.
وفي حلب أعدّ الناس موكباً لاستقباله، وخرج العلماء والوجهاء وكثير من أهل حلب على مسافة عشرين ميلاً تجاه دمشق، حتى شحّت وقتئذٍ سيّارات الأجرة في المدينة .
إنه موكب عظيم تتقدّمه الرايات وتضرب فيه الدفوف فرحاً بقدومه رضي الله عنه حدّثنا الشيخ عمر الملاّ حفجي قال: لما قدمنا من الحجاز ووصلنا مشارف حلب، تخفّينا عن الموكب، فصليت معه رضي الله عنه المغرب والعشاء جمعاً، وأبت عبديّـته أن يتصدّر ذلك الموكب الّذي لا تحظى الملوك بمثله، وعظم عليه استقبال الجمع الكثير له، قال رضي الله عنه : ( أنا عبدٌ لله لا أحب هذه الطنطنات، هذه لكم وليست لي ).
فوقع بصره رضي الله عنه بعد الصلاة مباشرةً على سيارة أجرة قديمة ومتعبة، فركبت معه، وقال لصاحبها: خذنا إلى الكلتاوية.حتى إذا وصلنا لم نجد في المسجد أحداً إذ كل من فيه مع المستقبلين!.فهذه عبديته في جميع أحواله، يغار على ربه وبارئه، وعلى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى من نفسه!.ولحق بنا جمع المستقبلين إلى الكلتاوية وأقيم حفل وحلقة ذكر وألقيت الخطب والأشعار ترحيباً بقدومه رضي الله عنه