اعتماد منهج التآخي بين الإخوان :
كان الشيخ يتحدث في مذاكرته ودروسه عن الحب في الله والبغض في الله ، والمراد بالحب في الله أن يكون الحب لذات المحبوب لا لا لأمر يريد المحب الوصول إليه من ذلك المحبوب ، فمن أحب الله أحب كل من يحب محبوبه ، وأبغض كل ما يسيء لذلك المحبوب ، وهذا هو البغض في الله ، فمن أحب في الله لابد إلا أن يبغض في الله ، ومن أحب العلم أحب كل من يوصله إلى الله ، ومن أحب العلم ، أحب كل من يؤهله إلى محبوبه وهو العلم ، فإذا أحب أستاذه فإنه يحبه لا لذاته وإنما لأنه يوصله إلى ما يحب وهو العلم ، ومن أحب المال أحب كل من يوصله إلى المال .
والحب في الله يولد الأخوة في الله ، فمن أحب الله أحب كل من يحب الله من أصحابه ، ويبغض كل من لا يحب الله ، والأخوة تحتاج إلى المجانسة لا إلى المجاورة ، فالإنسان يؤاخي من يجانسه في الطبيعة والعاطفة والسلوك ، ولا يؤاخي من يجاوره في المكان ، أو من يكون قريباً له في النسب ، لانعدام المجانسة .
وكان الشيخ يؤاخي بين إخوانه لكي يكون كل واحد مرآة لأخيه ، يكاشفه بعيوبه وينصحه ويشجعه ويأخذ بيده ويؤنس وحشته ويعينه على إصلاح خلقه ،
والأخوة رابطة بين شخصين ، وتقتضي الالتزام بما تقتضيه تلك الرابطة من التزامات وواجبات ، والأخوة تولد الألفة والألفة ثمرة حسن الخلق ، ومن ساءت أخلاقه فلا يألفه أحد ، لسوء خلقه ، وأهم ما تعلمه التربية الروحية الالتزام بحسن الخلق ، لتحقيق التآلف بين المتجانسين في الطبائع .
ولا يمكن للتآخي أن يتحقق إلا إذا توفرت المحبة بين الطرفين ، وأن يكون قائماً على أساس المحبة الذاتية ، لصفة في المحبوب مطلوبة ، وأهمها استحسانك لطبائعه وسجاياه ، وعندئذ تتلاقى الأرواح وتتجاوب ، فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
ومما أذكره من الروابط الأخوية هو مؤاخاته بين المتجانسين من إخوانه ، وهناك روابط إخاء كثيرة ، كان ينسجها بين إخوانه ، لكي يكون كل فرد عوناً لصاحبه وأخيه لا لتحقيق مطامع دنيوية ومطامع مادية ، ولكن ليتعاونا على طريق الحق ويتعاهدا على الإخلاص لله ، ويحفظ كل فرد منهما صاحبه في غيبته ، فلا يتخاصمان في أمور الدنيا ، ويتناصحان في الحق .
وكان يتحدث عن حقوق الأخوة والصحبة ، وأهمها أن يؤثر كل منهما الآخر بالنفس والمال ، وأن يمسك عن ذكر عيوبه ومساوئه وألا يكشف أسراره التي اطلع عليها ، وأن يذكر محاسنه ويتفقد أحواله ويقف إلى جانبه في الشدائد وأن يفعل كل ما يسره ويدخل الفرح إلى قلبه .
وإذا حدثه أحد بسوء عن أحد إخوانه كان يغضب ، ويقول لأصحابه: انقلوا إلي ما يحببني بأصحابي ، ولا تملؤوا قلبي بما يكدره ، ولو كان ما تقولونه هو الصدق ، وأحبكم إلي : من يعيد إلي أصحابي إذا أعرضوا وهم كأولادي ، فالأب لا يسعده أن يسمع أي كلام يسيء لأولاده أو يبعده عنهم .
وبلغه مرة أن اثنين من إخوانه المقربين تشاجرا لأمر مادي بينهما ، حزن الشيخ وتألم ، ولما رآهما أعرض عنهما .
وكان الإخوان ينقسمون بطريقة عفوية إلى مجموعات متجانسة ، وكان يخص كل مجموعة باهتمامه ورعايته ، وفي مجلسه تزول تلك الحواجز ولم يكن يضايقه هذا إلا إذا وقع التصادم أو التنافر بين هذه المجموعات ، وعندئذ كان يتدخل لإنهاء ذلك التشابك ، ويعيد اللحمة بين إخوانه بدعوتهم إلى تصفية القلوب والتزام المحبة والإخاء .
لم يكن من اليسير تجاوز الطبائع البشرية وما يتولد عن التنافس من انقسامات واختلافات بين المجموعات ، وبخاصة مجموعة الشيوخ ومجموعة الشباب ومجموعة العلماء ومجموعة التجار ، وهذا أمر طبيعي ومألوف في التكوين النفسي للبشر ، إلا أن ذلك كان يتم في أضيق الحدود وفي إطار الاحترام المتبادل ، واحترام الشباب لمكانة الشيوخ واحترام التجار لمكانة العلماء ، واحترام أبناء المدينة للضيوف الوافدين ، ومراعاة قيم الفضيلة في السلوك الاجتماعي .
كنت أرقب كل ذلك باهتمام وأتعلم من مدرسة الشيخ ذلك الأفق العالي من التسامي عن الصغائر والترفع عن الاهتمام بما لا يليق من الأمور الصغيرة ، وكان يمشي ولا يلتفت إلى الوراء أبداً ويتجاهل ما لا يليق وكان في ذلك يعلم إخوانه كيف يكون الكبير كبيراً ، لا بموقعه ولا بمنصبه ولا بماله ولا بسلطانه ، وإنما يكون كبيراً بمواقفه وحكمته وترفعه عن الصغائر.
وموضوع الصحبة والأخوة كان يحظى بأهمية كبيرة في مذاكرته ، ويردد الحديث الذي رواه أبو هريرة (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) ويقول: الصحبة الصحبة . . ابتعدوا عن قرناء السوء . . ويركز على أدب الصحبة ، وهي أن يعطي الصحبة حقها وحق الصحبة هو الالتزام بشروطها وآدابها الشرعية ، ويحذر من صحبة الأحمق الذي يفهم الأمور بطريقة خاطئة ولا يعترف بجهله ولا ينقاد للحق ، واذا سيطر عليه الغضب يفقد صوابه ويخسر كل شيء .
لم يكن الشيخ حريصاً على زيادة عدد إخوانه ولم يفكر في هذا قط في مجالسه ، وإنما كان يريد تكوين نخبة مختارة في سلوكها لكي تكون قدوة لغيرها ، وأن تكون متماسكة متآخية متناصرة على الحق كل فرد منها يمثل أمة في إيمانه بالله وفي يقينه بنصر الله ويدعو إلى الله بحاله لا بمقاله ولا بفصاحته .
واستطاع الشيخ أن يقيم بين إخوانه جسوراً من روابط المحبة الحقيقية والاحترام المتبادل ، وكان يسعده أن يرى روح الأسرة الواحدة بين إخوانه على أساس متين من محبة الله والتسابق إلى العمل الصالح والرأي الناصح وإلغاء الفوارق المادية والاجتماعية وإقامة أخوة إنسانية دعامتها الإيمان بالله وعمل النير ولم يكن يحب ذلك التفاضل في المنزلة الاجتماعية ، وإنما كان يحب التفاضل في التحلي بالأخلاق الغافلة وتزكية النفوس وطهارة القلوب .