التعريب ..وإرادة التعريب
بقلم الدكتور محمد فاروق النبهان

قضية التعريب من أهم القضايا القومية المعاصرة التي يجدر الاهتمام بها نظراً لركنيتها في ساحة العمل القومي الموحد ولخطورتها على مستقبل الأمة وتراثها ولغتها وتاريخها ......
ولا أود أن أتوقف في موضوع التعريب عند حدود الدلالة اللغوية والاصطلاحية والعرفية المستفادة من تلك الكلمة , وإنما أود أن أطرح الآفاق المختلفة لمعنى التعريب :تعريب القرار العربي وتعريب العادات والتقاليد , وتعريب الثقافة والفكر , وتعريب الشخصية العربية , تلك آفاق قد تكون أكثر خطورة وأهمية بالرغم من أن كلمة التعريب في قواميسنا المتعارفة لا تتجاوز حدود تعريب الإدراة وتعريب التعليم .
وأعتقد شخصياً في أن تعريب الإنسان العربي هو نقطة البداية لأي خطوة من خطوات التعريب , والإنسان هو موطن تلك الإرادة وساحتها الفعلية , والتعريب هو نتيجة حتمية تصدر تلقائياً عن ذلك الإنسان المؤمن بفكرة التعريب ..
ومن العبث أن نسعى جاهدين لتعريب اللسان قبل تعريب الإنسان فالإنسان هو الساحة الحقيقية والامتداد الطبيعي لكل الآمال القومية , والتعريب لا يحتاج إلى ذلك الجهد الذي نتصوره , لأنه يرتبط بالإنسان , ولذا فإننا نحتاج أولاً إلى تعريب الإنسان فكراً وثقافة وتعريب قناعاته ومنطلقاته لكي يواجه التعريب قابلية نفسية تتيح له حرية الامتداد , لكي يكون المظهر الأسمى لشعب متطلع لاستقلال حقيقي .
تعريب القرار العربي
ومن حقنا أن نركز أولاً على تعريب التعليم وتعريب الإدارة ,ولكن أليس من حقنا أن نتطاول بأعناقنا أحياناً ولو عن طريق الفضول إلى تعريب القرار العربي لكي يكون القرار السياسي نابعاً من سلطة وطنية , لأن ذلك من أهم مظاهر السيادة لدى علماء الفكر السياسي المعاصر , وبالرغم من التسليم بأن السيادة المطلقة فكرة خيالية تفتقد النظرة الواقعية والممارسة الفعلية لأن الدول كالأفراد لا تستطيع أن تمارس سيادة مطلقة , لوجود ضغوط سياسية واقتصادية وظروف جغرافية قد تفرض نفسها على تلك الدول فتمنعها من ممارسة حقها في السيادة ويبقى قرارها مقيداً بضغوط تتفاوت أحجامها قوة وضعفاً بحسب طبيعة الإمكانات التي تملكها الدولة .
ومع هذا فإن تعريب القرار ليس من المطامح العسيرة وليس من المستحيلات المسلمة لأن الأمة العربية في تكامل طاقاتها تمتلك سلطة اتخاذ قرار عربي ,وتمتلك القدرة على حماية ذلك القرار ,لأن القرار النابع من ضمير الشعوب لا تحميه الأنظمة السياسية من خلال أجهزتها الأمنية فقط وإنما تحميه إرادة الشعوب وتصميماتها ومثل هذه القرارات جديرة بأن تسجل في تاريخ الأمم بأحرف من ذهب ,لأن منجزات الشعوب لا تمحوها تقلبات الليل والنهار ولا تغيب خلف أفق يطويه الظلام الدامس
تعريب التاريخ
وتعريب التاريخ هو إعادة تدوينه من جديد لكي يكون تفسير الأحداث الخارجية تفسيراً منسجماً مع المواقف الوطنية , ولكي يكون تدوين التاريخ خاضعاً لمعايير وطنية لا تستعمل لفظة الإرهاب في موطن الشهادة ولا تطلق لفظة الجريمة على حق الشعوب والأفراد في الدفاع عن أرضهم وحريتهم وكرامتهم , ولا تمجد تاريخ الطغاة والمجرمين ولا يشوه تاريخ الوطنيين الذين يتصدون للدفاع عن كرامة وحرية شعوبهم .
وتاريخنا اليوم حافل بالأخطاء مليء بصفحات تشوه معالم ذلك التاريخ , مكتظ بالافتراءات التاريخية التي تشجع على الفتنة , وتمزق الوحدة , وتعمق التناقض بين أفراد المجتمع لكي يكون مؤهلاً للتفجير الذاتي في لحظة الحاجة إلى ذلك .
إن من اليسير على كل باحث أن يقلب بين يديه صفحة كتاب من كتب التاريخ وسوف يجد بسهولة مواطن الخطر تمد أعناقها , لتصافح النوايا الطيبة لدى الشباب الذي لم تكتمل رؤيته الفكرية ولم تتكامل إحاطته بالأحداث , فيتلفظ من ذلك التاريخ ما شاء له أن يتلفظ مما يعتبره فتحاً مجيداً أو اكتشافاً فريداً , فيحتضنه ويدافع عنه ,ولا يدري أنه يحتضن سهماً موجهاً إلى صدره , وسرعان ماتتفاعل تلك السموم في جسم الأمة ,فتؤدي إلى تشويه محكم لمواقفها وتاريخها.
وتعريب التاريخ هو تصحيح الروايات التاريخية لكي تكون صادقة معبرة عن الحقيقة التي تراها الأمة مراعية بذلك مصالحها ومواقفها ,وقيمها وتقاليدها ,وخاصة أن تاريخنا القديم والحديث حافل بالأخطاء والتوترات والتناقضات السياسية والفكرية وذلك أمر طبيعي في تاريخ الأمم ومن أعجب مواطن الغرابة أن كثيراً من تلك المواقف التاريخية المشوهة التي كتبها المستشرقون عن تاريخ العرب والإسلام انتقلت إلى كتب تاريخية متعددة لمؤرخين معاصرين لا يرقى الشك إلى صدق مشاعرهم الوطنية والدينية وذلك إيماناً من هؤلاء بسلامة البحث العلمي وأخلاقيات الباحثين .
ومن العبث أن نطالب أعداء العرب والإسلام بالإنصاف والموضوعية ,وليس من الإنصاف أن يطالب الخصم مهما بلغت درجة أخلاقيته بأن يستشعر نفس مشاعر خصمه وأحاسيسه ,ذلك مما لا يجوز أن نتطلع إليه ,والغرب لا يمكن أن يتعامل مع قضايا العرب والإسلام بنفس الروح الحيادية التي يتعامل بها مع قضايا الشعوب الأخرى في أمريكا اللاتينية أو الشرق الأقصى لأن الحضارة الأوروبية لم تصطدم بلك الحضارات ,ولم يقع بينهم حروب صليبية استمرت لمدة قرون ,
تعريب الثقافة والفكر
لا يمكنني مهما حاولت الإحاطة أن أستوعب أهمية وجوانب تعريب الثقافة والفكر فذلك الجانب مما يتعذر الحديث عنه في إطار طرح عام لمشكلة التعريب فالثقافة ميدان واسع يطل على ميادين فرعية مختلفة .
ومن الإنصاف أن نعترف للشعوب العربية بمقاومتها للمخطط الاستعماري في ميادين الثقافة المتضمن مطاردة اللغة العربية كلغة قومية قادرة على إحياء المشاعر الوطنية ,وكلغة موحدة لمختلف الطوائف الدينية والتناقضات الإقليمية والقبلية ,بالإضافة إلى هذا فإن اللغة العربية هي لغة القرآن ,والقرآن يوجه المسلم توجيهاً دينياً ويعبئه نفسياً المقاومة أعداء عقيدته ,ويعمق لديه مشاعر التضحية والاستشهاد عن طريق الإعطاء الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله معنى مقدساً وسامياً .
وبالرغم من كل المحاولات لإحلال لغة المستعمر في مجال الثقافة والفكر كلغة متفوقة ومتميزة ,قادرة على التعبير ,فإن تلك اللغات وجدت نفسها محصورة في بيئة خاصة ,وفي مواقع معزولة عن الجماهير مما جعلها تتقلص رويدا وتنكمش على نفسها مخلفة وراءها مشاعر من الاعتزاز الصوفي باللغة القومية
قد نشعر أحياناً بقدر غير يسر من الألم والحزن عندما نجد أن اللغة العربية لم تأخذ موقعها كلغة قومية سائدة ’في مجال الثقافة والفكر تحت تأثير مخلفات نفسية من عصر الاستعمار ,وبصمات واضحة في السلوك ,إلا أن صحوة المشاعر الوطنية وتفاعل تلك المشاعر كفيل بأن يعطي للغة العربية موطن الصدارة في الوطن العربي كلغة فكر وثقافة ,قادرة على أن تستوعب كل التطلعات الثقافية ,وأن تعبر من خلال مفرداتها عن أدق ما يعتمل في النفس من تصورات وأفكار .
وليست قضية التعريب قضية عنصرية ,ولا يمكن النظر إليها في هذا الإطار فالأمة العربية لا تحاول أن تفرض لغتها على العالم المعاصر,وليست قادرة على ذلك ولكن من حقها أن تمارس حقها المشروع في الدفاع عن لغتها والاعتزاز بها ,والمطالبة بأن تكون لغتها الرسمية ولغتها الثقافية والفكرية ,في كل مراحل التعليم وبالأخص التعليم العالي ,حيث من حق المواطن أن يتلقى تعليمه المتخصص بلغته القومية ,وأن يستعمل المصطلحات العلمية الدالة على معانيها اللغوية
المستفادة من الدلالة الذاتية للمفردات اللغوية وهذا ما يسهم في إغناء المفردات اللغوية وفي تشجيع توليد الكلمات العربية المعبرة فضلا عن أن ذلك يغني المكتبة العربية بالكتب المتخصصة في ميادين الطب والهندسة والرياضيات والعلوم .
وتعريب التعليم الجامعي وبخاصة الكليات العلمية ,يعتبر من أهم الخطوات الجديرة بالتشجيع لن التعريب كما قلنا هو مظهر من مظاهر السيادة يحكم عليه ويقرر من منظور قومي ووطني ,وليس من منظور علمي مجرد ولو كانت قضايا السيادة تخضع لمعايير المنفعية والفائدة لتخلى الكثير من الشعوب عن هويتها القومية,ولاندثرت لغات في العالم ولاضمحلت أمم لا تملك مقومات كافية للتقدم وبناء الحضارة ولكن الأمر لا ينظر إليه من هذه الزاوية الضيقة وإلا خدمنا استراتيجية ثقافية غازية , تبذل كل جهدها لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم الثالث . أليس من الغريب والمدهش أن كلية الطب الأولى التي أنشئت في العالم العربي في كل من القاهرة ودمشق كانت تدرس الطب باللغة العربية ,وكانت تستخدم المصطلحات الطبية باللغة العربية وبرزت مجموعة من الأطباء العرب في بداية هذا القرن عندما كانت مهنة الطب نادرة ,عكفوا على وضع مصطلحات عربية لكل المصطلحات الطبية الأجنبية ,وظهرت قواميس متعددة في هذا المجال .
ولعل من المفارقات العجيبة أن اللغة العربية كانت قبل عشرة قرون لغة علمية ,استوعبت نظريات ابن الهيثم في النظريات والبصريات ,وحدد فيها نقطة الانعكاس في مرآة مقعرة لضياء واردمن جسم معين إلى العين عن طريق إرجاء هذه المشكلة إلى معادلة جبرية من الدرجة الرابعة في كتابه (المناظر)المترجم إلى اللاتينية ,واستوعبت مؤلفات الرازي في الطب ,ومؤلفات عبد الله ابن زهر في الأمراض والأغذية ,ومؤلفات علي ابن العباس المجوس في علم التشريح .
وتاريخ العلوم يؤكد أن المؤلفات الإسلامية في الطب والرياضيات والفلك والكيمياء قد ترجمت إلى اللغة اللاتينية وأن المؤلفات العربية كانت من أهم المؤلفات التي أسهمت في نمو العلم في الغرب الأوروبي لمدة قرون ....
ولا أظن أننا اليوم قادرين على إقناع أنفسنا وضمائرنا أولا ,وإقناع تاريخ العلوم ثانيا بأن اللغة العربية لغة تتصف بالجمود والتخلف ,وهي غير مؤهلة من الناحية اللغوية لكي تكون لغة علمية ,لارتباطها بمفردات لا تتجاوز دلالتها البيئة التي كان العربي يعيش فيها ،في البادية والصحراء ,وعن الخيل ولإبل
تلك لغة في الإقناع كانت في عصر الهيمنة الثقافية ,والسيطرة الاستعمارية ,حيث كان المجتمع العربي يتقبل بسذاجة لا خيار له في قبولها كل ما يفرض عليه من قناعات ونصائح ودراسات وليس الأمر اليوم كذلك فلم يعد الشعب العربي بالرغم من انتشار الأمية فيه وبالرغم من عدم توفر المناخ الملائم للوعي الثقافي مستعدا لقبول كل المسلمات على الأقل ابتدأ من مرحلة الشباب ,وأصبح يناقش الأمور ويوازن ولو بواسطة موازين ساذجة قلا ترقى لمستوى البراهين العقلية ولكنها بداية الوعي للبحث عن الحقيقة المؤودة ..
التعريب والذاتية الحضارية
ليس التعريب قضية جانبية تتعلق باللغة والتعاطف معها من باب التعصب للغة القومية ,وإنما هو قضية حضارية ,ترتبط بها معطيات متعددة أهمها تنمية الذات الثقافية والحضارية والإنسانية من خلال التفاعل الخلاق بين الإنسان وأدات التعبير ,بين المجتمع والفكر ,بين النظرية والواقع إن الثقافة ليست تلك الثقافة المنقولة والمنحوتة من ثقافات متغايرة ,وليست تلك الثقافة المعبرة عن واقع مجتمع معين قد تتنافر رؤيته الإنسانية مع رؤية مجتمعنا ,وليست تلك الثقافة الملتقطة من ثقافات الغرب والشرق ومن فتات موائد انصرف عنها أصحابها ولم يبق في أطباقها سوى ماتركته أصابعهم من مخلفات ,ولكن الثقافة الحقيقية هي التي تنطلق من تجربة المجتمع وتنمو من خلال عطائها وتعبر عن مشاكله وقيمه وقضاياه ,تلك هي الثقافة الوطنية الأصيلة الانتماء التي لا ينفر المواطن منها لأنه جزء منها ولا يأنف من الانتساب إليها لأنها ثقافته ,ولا يرى فيها ترفا يصرفه عن مشكلاته وقضاياه لأنها نابعة من واقعه بها يملك القدرة على أن يواجه الثقافات الأخرى مواجهة تفاعل وتكامل يأخذ ويعطي ولا يخشى على ذاته من أي اقتباس أو استلاب .
توحيد سياسات التعريب
مما يدعونا إلى التفاؤل بغير حدود أن قضية التعريب وبخاصة تعريب التعليم لم تعد من القضايا المطروحة للنقاش في معظم البلاد العربية وذلك لتوفر القناعة بفكرة التعريب وركنيتها في أي عمل من أعمال النهوض بمستوى الثقافة والتربية ,وإذا كان التعريب على مستوى التعليم الجامعي مازال يعيش على استحياء وخجل ,وإنما يعود في الدرجة الأولى ,كما يقول المشرفون على ذلك إلى أهمية تطوير الأطر العلمية القادرة على تطوير التدريس باللغة العربية ,وهذا يحتاج إلى تطوير المصطلحات العلمية المستعملة في نطاق العلوم وقد قامت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من خلال مكاتبها المتخصصة وبخاصة مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي بجهد محمود ومشكور لوضع معاجم متخصصة في الرياضيات والكيمياء والفيزياء والطب ومعظم العلوم كما قامت المجامع اللغوية العربية بمحاولات وجهود موفقة لوضع معاجم للمصطلحات العلمية وأقيمت ندوات متلاحقة خلال السنوات الأخيرة لتوحيد سياسة التعريب في الوطن العربي لكي تكون سياسة موحدة وموحدة لكل جهود التعريب الموفقة
إلا أن تلك الآمال ما زالت حبيسة القرارات ولم تنتقل إلى ساحة التنفيذ وبخاصة في الجامعات ومراكز الأبحاث حيث من الضروري أن تتكامل الجهود لوضع اللبنات الأولى لتصور عربي في قضية جوهرية وأساسية هي المنطلق الحقيقي لوحدة ثقافية لا بد منها لتكوين فكر عربي موحد يرفض الاستلاب ويغذي مشاعر المواطن ويعمق لديه الانتماء والاعتزاز بقيمه الحضارية والدنية والإنسانية .