آخر المواضيع
اخترنا لكم




  الرئيسية    الأسرة المسلمـــة   مقالات وأبحاث
لمحات في المنهج النبوي التربوي



مرات القراءة:7238    
أرسل إلى صديق
أبلغ عن مشكلة في هذه المادة

لمحات في المنهج النبوي التربوي

 

كتابة: إبراهيم الحمدو العمر

 

التربية هي تعهّد الإنسان في مراحل حياته حتى يبلغ حد الكمال في أخلاقه وسلوكه وعاطفته.

أو هي عملية توفير الفرص الملائمة لنمو الفرد نموّاً متكاملاً في جميع نواحي شخصيته الجسمية والعقلية والعاطفية والاجتماعية، حتى يستطيع ممارسة أنماط سلوكية مختلفة تُمكّنه من التكيّف مع الحياة والمجتمع. اهـ [تربية الإسلام لعبد السلام الفندي ص20]، وهذا عمل يحتاج إلى استيعاب كل الجوانب في حياة الإنسان؛ فالإنسان جسد والإنسان روح والإنسان عاطفة والإنسان عقل.

ولن تتم العملية التربوية حتى تعم كل هذه الجوانب في حياة الإنسان، وحتى تتم تغذيتها بما يلزمها من عاطفة وعلم وعقائد وأخلاق وتكوين جسدي، وإنّ أيّ خلل في جانب من هذه الجوانب سينعكس على الجوانب الأخرى ويحدث فيها خللاَ، (فتحتاج العملية التربوية إلى خطط متدرّجة تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية، وفق ترتيب مُنظَّم صاعد ينتقل مع الناشىء من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة) [أصول التربية الإسلامية لعبدالرحمن النحلاوي ص17.]

ولقد بلغت تربية النبي صلى الله عليه وسلم حد الكمال وكانت المنهج الأمثل بشموليّتها؛ من تنمية للفكر وتنظيم للسلوك وتغذية للعواطف وبناء للجسد من دون أن يطغى جانب على جانب بما يحقق أهداف الفرد والمجتمع في السعادة والكمال والرقيّ، وكان أسلوبه الأسلوب المتجدد الذي يلبّي حاجة كل عصر ويصلح لكل زمان ومكان ويستوعب جميع طبائع الناس على اختلاف أنماط سلوكهم وصفاتهم ومراحل عمرهم.

 

أولا: المنهج النبوي في تربية الصغار

قد تكون سائراً مع ابنك في طريق ترمقكم عيون الناس أو يكون معك في مجلس، فيُخطئ الطفل أو لا يُحسن التصرف في موقف من المواقف، ما قد يُخجلك أمام الناس. وهنا يختلف رَدّ فعل المربين؛ فمنهم مَن يضرب هذا الولد، ومنهم مَن يُهمله ويتركه من دون تعليم، ومنهم مَن يُبرّر له خطأه، ومنهم مَن يُحسن فهم الموقف ويعطيه حقه...

وتأمّل معي هذا الموقف النبوي، فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: أخذ الحسن بن علي، رضي الله عنهما، تمرة من تمر الصَّدَقَة فجعلها في فِيِه، فقال رسول الله(( )): "كخْ كخْ، إرمِ بها، أمَا علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟".

طفل تتوق نفسه لحبّة تمر يتناولها، فما يدع النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا الموقف يمرّ من دون أن يُعلّم الطفل، ولم تأخذه عاطفة الأبوة فيترك للولد طفولته، بل زَجَرَهُ بكلمة يفهم الصغار أنها تحذير من شيء لا يليق، وأسلوب يتناسب مع طفولته البريئة، ثم قال: أما علمت؟ وكأنه يُعامله معاملة الذي يعرف ولكنه قد نسي، وكأنَّهُ يُذكّره فقط ليرفع من هِمّته وليكون أدْعَى لقبول النصيحة ويُشعره بأن هذه الأخلاق لا تليق بأمثاله.

ثم علّل النبي صلى الله عليه وسلم سبب منعه للطفل من الأكل بقوله: "لا تحل لنا الصدقة" لتكون له قاعدة فكرية عامة في حياته كلها ولم يترك الموقف من دون تعليل، على الرغم من طفولة الغلام.

وهذا موقف ثانٍ يتوجه فيه التأديب النبوي إلى عبد خادم يسوق الإبل ولكنه لا يُحسن السوق كقائد سيارة لا يُحسن قيادتها، ويغفل هذا الخادم عَمَّن داخل الهَوْدَج من النساء الضعيفات اللواتي تؤذيهنّ السرعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يتصرف مع خادمه ما يشاء، يستطيع أن يضربه ويستطيع أن يُغلِظ له القول، ويستطيع أن يتخلص منه ويأتي بغيره؛ ولكن الأجدَى من كل هذا والأنفَع أن يُصلح له خطأه وأن يُشعره بإنسانيته من خلال معاملته بعاطفة الأبوة.

أخرج الشيخان عن أنس، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وغلام أسود يُقال له أنجشة يحدو، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَك يا أنجشة!! رويدك سوقَك بالقوارير" يعني النساء.

إنه التنبيه اللطيف من دون عنف ولا ازدراء، بل إنه الأدب النبوي الذي يُعلّمنا أن نستأصل الخطأ من جذوره بأسلوب هَيّن لَيّن، وهذا غاية النجاح في العملية التربوية، لأنك تغرس مكان الاعوجاج استقامة ومكان الخطأ صواباً ومكان العداوة محبّة ومكان الجهل علماً.

فإذا كان الطفل صغيراً لا يفهم الكلام ولا يعقل التنبيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، أرشدنا إلى وسيلة تربوية تناسب طفولته وتزجره عن لهوه، وهي أن نجعل السوط الذي ينفر منه الطفل ويخاف من لَسْعِه جسدَه على مَرْأى منه، ولكن من دون أن نضربه به إنما هو العامل النفسي في التربية.

رَوَىَ البخاري في الأدب المفرَد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بتعليق السوط في البيت.

إنه الأسلوب النبوي في تربية الصغار، فالطفل لا يُضرَب ولكنه أيضاً لا يُترَك من دون تنبيه يتناسب مع عاطفته الصغيرة وطفولته البريئة. فإذا اشتد عوده وصلبت بنيته ضرب الضرب التأديبي المناسب إن احتاج المؤدب إلى ذلك من دون أذى نفسي أو جسدي أو إشعاره بالانتقام. رَوَىَ أبو داود بإسناد حسن "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ".

فإنّ ابتداء الضرب على التقصير في الأمور المهمة يكون في سن العاشرة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يَأَذَن بضرب الطفل على التقصير في أمر الصلاة، وهي ركن الدين وعموده، فمن الأولى ألاّ يُضْرب في باقي الأمور السلوكيّة التي لا تساوي مكانة الصلاة أهميةً ومنزلةً عند الله تبارك وتعالى.

فهل يليق أن يضرب الوالد ولده لكسر كوب أو تحطيم لعبة أو لكلمة ينطقها أو حركة يؤديها أو تَخَلّف في واجب مدرسي؟ أم الأفضل اتّباع الهدي النبوي من أسلوب الحكمة والعقل والتعليم الذي يتناسب مع طفولته؟ وهل يليق أيضاً أن نُفرط في إهمال الطفل من دون تأديب أو تعليم؟

يقول الإمام الغزالي، رحمه الله: "أمّا الصبي إذا أُهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذاباً حسوداً سروقاً نمّاماً ذا فضول وضحك وكياد ومَجَانَة وإنما يُحفظ عن جميع ذلك بحُسن التأديب".

 

ثانيا: المنهج النبوي في تنمية العقيدة والعبادة

إذا استقامت عقيدة الإنسان وترسّخت في قلبه، استقامت أعماله وصلحت سيرته وسريرته واتَّزَنَت شخصيته، وفطرة الطفل مرنة صافية تتقبل ما يُنقش عليها. لذا، كان من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يؤذن في أذن المولود حين ولادته وأن يُلقّن كلمة التوحيد أول ما ينطق، ليكون اسم الله أول ما يطرق سمعه وأول ما ينطق به لسانه.

رَوَى الحاكم عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "افْتَحُوا عَلَى صِبْيَانِكُمْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ".

وروى عبدالرزاق في المصنف: "كانوا يستحبون أول ما يفصح أن يعلموه لا إله إلا الله سبع مرات، فيكون ذلك أول ما يتكلم به".

وروى عبدالرزاق في المصنف عن عبدالكريم بن أبي أمية، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعلم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]

إنّ ترك الطفل من دون ربطه بالله عَزَّ وَجَلّ وترسيخ عقيدته بذلك ومن دون توجيه قلبه لخالق الكون ومُدبّره جَلَّ جلاله، يجعل عقله وفكره نَهْبَاَ لعواصف الشك والتردد والأوهام، ويجعل قلبه عرضة للشتات والوساوس والضياع ويجعل حياته مضطربة مهتزة لا تستقيم على دين أو خلق.

وما أعظم تلك الكلمات النبوية والنبي صلى الله عليه وسلم يُلقّنها لغلام يردفه خلفه على راحلته بأسلوب يثير في القلب كل كوامن العشق لله تعالى من التعلق به والتوجه إليه وقطع الأمل من سواه، وتجعل الفطرة على يقين بأن الله جَلّ جلاله، هو وحده المتصرف في الكون ولا سلطان لغيره مهما عظمت قوته أو كثر جمعه أو عز جاهه، أخرج الترمذي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".

فأية عَثرة تقف في وجه غلام يُلقّنه مُربّيهِ هذه الكلمات، وأي عائق وأية مشكلة ستصعب عليه وهو على يقين بأن تعريف الأمور بيد خالق هذا الكون العظيم، جَلَّ جلاله، أي خوف سيتسرب إلى قلبه؟ وهو المليء بالثقة بالله سبحانه وتعالى؟

ثم كم سيتملّكهُ مِنْ حُب لله تعالى، إذا عرف أنه هو الذي يحفظه أينما كان ويُعينه إذا استعان ويرد عنه كل كيد من الشر.

بعد هذا الأسلوب المحكم من التربية على الايمان بالله تعالى وإخلاص القلب له. لا يصعب على هذا الطفل إذا اشتد عوده أن يؤدي ما عليه من واجب العبادة لله تعالى وطاعته.

فكان صلى الله عليه وسلم ، بعد تلقين التوحيد يُعلّم الطفل ويلفت انتباهه إلى ما يجب عليه من عبودية الله تعالى، أليس هو الذي أوجدنا من العَدَم؟ أليس هو الذي أكرمنا بنعمتي الإيجاد والإمداد؟ أليس هو جَلّ جلاله الذي يمنحنا كل خير ويرد عنّا كل شَرّ؛ فلنؤدِّ بعض الشكر بإخلاص عبوديتنا له جَلّ جلاله.

فيُؤمَر الطفل بالصلاة لسبع سنوات، وهي أهم أركان الإسلام وما بعدها تبع لها، وكان عليه الصلاة والسلام، يُباشر بنفسه تعليم الأطفال ما يحتاجون إليه من أمور الصلاة وغيرها.

أخرج أبوداود والترمذي عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلمات أقولهنّ في الوتر: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قْضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي بالحق وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ".

وكان يُوجّه الأطفال للصف في الصلاة، ويُعلّمهم آدابها ويَصْحَبهُم إلى صلاة العيد ويُعلّمهم أركان الإسلام كما يعلم الكبار، لا يُفرّق في تعليمه بين صغير وكبير.

 

ثالثا: التربية النبوية الاجتماعية

الإنسان اجتماعي بطبعه وفطرته، وللحياة الاجتماعية مع الناس آداب وأصول يتعلمها الصغير من اختلاطه مع ذويه الكبار ومُلابسته لمجالسهم ومُعاينته لطريقة تعاملهم في جَدّهم وهزلهم وشدتهم ورخائهم.

والنبي المعلم صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يقصي الصغار عن مجلسه أو يُبعدهم حتى يتعلم الصغير أصول الحياة الاجتماعية، ولم يكن يستهين بعقولهم وتفكيرهم، ولم يكن يضنّ عليهم بنوع من التعامل، بل كان يقترب من طفولتهم البريئة الحلوة المرحة بأسلوبه النبوي الرحيم، يُمازحهم ويفتح عقولهم بالسؤال ويُسلّم عليهم إذا لقيَهُم ليرفعهم إلى مصاف الرجولة ويمشي معهم في الطريق ويُشعرهم برجولتهم ويعلمهم آداب الطريق والمجلس ويَعُودَهم إذا مَرِضُوا.

أخرج البخاري ومسلم عن أنس، رضي الله عنه، أنه مَرَّ على صبيان، فسلّم عليهم وقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يفعله).

وهذا عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، وغيره من صبيان الصحابة يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان عليه الصلاة والسلام، يزور الأنصار فيسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ويدعو لهم، وعاد غلاماً يهودياً مَرِضَ ودعاهُ إلى الإسلام. ويرى طفلاً يبيع ويشترى فيشد من أزره بدعائه له.

رَوَى أبويعلى والطبراني عن عمرو بن حريث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مَرّ بعبدالله بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان، قال: "اللَّهُمَّ بَارَكَ لَهُ في بَيْعِه". وفي البخاري ومسلم عن أنس، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس خلقاً وكان أخ لي يُقال له أبوعمير وهو فطيم، كان إذا جاءنا قال: يا أبا عمير ما فعل النّغير) والنغير: طائر صغير.

وروى الطبراني عن جابر، رضي الله عنه، قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُعينا إلى طعام، فإذا الحسين يلعب في الطريق مع صبيان، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يده فجعل يفر ها هنا وهناك فيُضاحكهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه وأذنيه ثم اعتنقه وقبّله).

فأطْلِق العِنان لخيالك وتصور الموقف، هذا النبي العظيم، صلى الله عليه وسلم الذي يتنزل عليه جبريل بوحي الله وتتنزل عليه ملائكة السماء، وهو المتواضع الذي يُداعب صبياً في طريق من طُرق المدينة ويهرع إليه ويُداعبه أمام أصحابه، أمَا إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

رابعا: التربية النبوية في بناء الجسد

التربية عند النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقتصر على لون معين أو جانب محدد من جوانب حياة الإنسان في مرحلة ما، إنما هي تربية شاملة متوازنة تُنظم فكره وسلوكه وتحقق له التوازن النفسي والتكيّف الاجتماعي، بحيث تُمكّنه من النهوض بمسؤولياته وواجباته تجاه نفسه وعالمه ومجتمعه) [تربية الطفل لعبد السلام الفندي].

ولمّا كان الجسد له الدور الكبير في تحمُّل أعباء الحياة وتحمل أعباء العبادة الواجبة، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، أولاهُ ما يليق به من العناية ليؤدي الإنسان دوره في الحياة.

وأول ما علمنا إياهُ النبي صلى الله عليه وسلم ، في منهجه التربوي هو الاعتناء بنظافة الجسم وتغذيته، والحرص على تنشيطه وتقويته بأنواع الرياضات التي تتناسب ومرحلة العمر والحث عليها.

نجد ذلك في الوضوء الواجب لكل صلاة، ولأن الأعضاء المكشوفة أشد حاجة للنظافة، فإنّ الاعتناء بغسلها وتنظيفها أشد، فتُغسل لكل صلاة، ونجد ذلك في غسل الجمعة والأغسال المسنونة في الاجتماعات وفي المواسم، كالعيد أو أي اجتماع يحتاج إليه الإنسان، وغسل الجنابة المفروض ليستعيد الجسم نشاطه وقوّته وأسباب النظافة الأخرى، كتقليم الأظفار وتهذيب الشَّعر وسُنن الفطرة واستخدام السّواك لتطهير الفم. كلها وسائل اعتناء بالجسد، وأرسل صلى الله عليه وسلم ، وفداً إلى إحدى القبائل وأرشدهم إلى إصلاح ثيابهم ورحالهم حتى يكونوا شَامَة بين الناس.

وبعد هذه النظافة، لابد من تقوية الجسد بأنواع من الرياضة المناسبة التي لا تتعارض مع الحشمة والخلق لتمسك على الجسم قوته وتجعله يتمتع بالحياة ويقاوم الضَّعف والوَهَن.

ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى تفضيل المؤمن القوي فقال: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ". وهذه القوة لن يتمتع بها الإنسان وهو يَرْكَن إلى الراحة ورفاهية العيش والخلود إلى مُتَع الحياة، بل لابد من تقويته بالرياضة التي تَحْفَظ على الجسم تماسكه ومُرُونته ومقاومته.

قال سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: (عَلِّمُوا أوْلادَكُم السِّبَاحَة والرِّمَايَة وأن يَثِبُوا عَلَى الخَيْل وَثْبَاً) [رواه سعيد بن منصور في سننه].

وقال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَيءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ لَغْوٌ ولَهْوٌ، أو سَهْوٌ؛ إلاَّ أرْبَعَ خِصَالٍ: مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الغَرَضَيْنِ للرَّمِي، وتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتُهُ أهْلَهُ، وتَعَلُّمُ السِّبَاحَةِ" [رواه البيهقي في السُّنن الكبرى]

ومَرَّ صلى الله عليه وسلم ، بقوم وهم يرمون فقال: "ارْمُوا وأنَا مَعَكُم كلّكُم" [صحيح البخاري]. وكان أهل الحبشة يلعبون بالحراب في مسجده وهي رياضتهم وما كان ينكر عليهم، صلوات الله عليه، بل يقف ينظُر إليهم.

وكان، صلوات الله عليه، يصف عبدالله وعُبيدالله وكثيراً من بَني العباس، ثم يقول: "مَن سَبَقَ فَلَهُ كَذَا وكَذَا"، قال: "فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيُقَبّلهُم ويلتزمهم" [رواه أحمد في مسنده].

ذلك هو الأسلوب النبوي في تنمية الجسم وخصوصاً عند الأطفال لتشتد أجسادهم الطريّة وتتفتّح عقولهم الظريفة وينطلقوا إلى الحياة بلا جُمود، ويتحقق لهم التوازن الاجتماعي والانفعالي والمحاكمات العقليّة.

 

خامسا: المنهج النبوي في التكوين العلمي والفكري

الإسلام هو دين العلم والفكر والاكتشاف والاختراع، آياته تدعو إلى العلم وتفضيل العلماء وتدعو إلى التأمُّل والتفكُّر في الآفاق والسير في الأرض لاكتشاف أسرار الحياة واستخلاص العبرة، ويخص أصحاب القلوب وأولي النّهي وأولي الألباب بالتفكير الدقيق، وأنهم هم الذين يُحسنون استخلاص العبرة أكثر من غيرهم.

فـ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، والله خلقنا لا نعرف شيئاً وأعطانا السمع والبصر لنتعلم. ثم إننا مسؤولون عن هذا العلم إن أخذناه من غير طريقة أو وضعناه في غير محله، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم )، منذ أول يوم من بعثته إلى آخر يوم في دعوته، هي مدرسة لفنون العلم وأساليب التعليم وصناعة العقول وتربية التفكير وصقل المواهب، ولم يكن، عليه الصلاة والسلام، يترك موقفاً من دون تعليم أو تربية، وقال صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنّي مَنَاسِكَكُم"، ليربط طالب العلم بمعلّمه.

ويشجع على التعليم بتقديم أصحاب المعرفه في الإمارة، فمن يحفظ أكثر من آيات الله تعالى، فهو أميرهم في سفرهم.

بل جعل، صلوات الله عليه، فداء أسرى بدر أن يُعلّموا صبيان المسلمين.

وفي المدينة المنوَّرة يُدرك، عليه الصلاة والسلام، حاجة المجتمع المدني إلى تَعَلُّم لغة أخرى، لتكون جسر تواصُل مع الآخرين، وحتى يأمَن فكر أعدائه، فيُرسل زيد بن ثابت، الشاب المتفتّح الذكي، ليتعلّم اللغة السريانية العبرانية، فيتعلمها في سبعة عشر يوماً.

وقد كان صلى الله عليه وسلم ، يعتمد كل الأساليب المؤثّرة في المتعلمين، سواءٌ أكانت أساليب فكرية أم نفسية.

فمن الأساليب الفكرية رواية القصص، لِمَا لها من تأثير روحي وخلقي فكان صلى الله عليه وسلم ، يُحدّثهم بقصة الأقرع والأبرص والأعمَى، ويلفت انتباههم إلى موقف العبرة منها.

وقصة الثلاثة الذين آوَاهُم السَّيْل إلى غارٍ، فتوسّلوا إلى الله بصالح أعمالهم.

وهذا رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، يعلمهم من خلال قصته طريقة الرجوع إلى الله تعالى، إن شرد عنه الإنسان.

وأنّ رجلاً زار أخاً له في الله في قرية، فأرْصَدَ الله له مَلَكاً على مدرجته، يرشدهم إلى أهمية التواصل الاجتماعي.

وكان يخاطب كلاًّ بحسبه مباشرة وبدون واسطة ليكون أبْلَغ في تعليمه، وأمَرَنَا أن نُراعي عقليّة مَن نتكلم معهم ونُكلّمهم على قدر عقولهم، حتى لا نُخطىء في وضع المعلومة في غير محلها فتنعكس إلى ضدها. وكان أحسن الناس أداءً في كلامه -يُعلّمنا أسلوب الخطاب وأدبه مع الآخرين- تتحدّر كلماته كحَبّ اللؤلؤ، لو أراد العَادّ أن يعدّها لعَدَّها ويُكرّر كلامه حتى يَعْقلهُ مَن أمامه.

هذا هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ، في طريقة تعليمه للآخرين.

وكان (صلى الله عليه وسلم يستخدم الأساليب النفسية مع الصغار والكبار، أمّا الكبار فيطرح عليهم الأسئلة ويطلب منهم الإجابة، وفي ذلك ما فيه من أسلوب التحفيز النفسي، وأما الأطفال فيصحبهم إلى المسجد ويثني عليهم إذا أحسنوا فيُنمّي ثقتهم بأنفسهم.

وقد تقدمت لكل ذلك شواهد في هذا البحث.

هذا بعض المنهج النبوي في تربيته وتعليمه ومهما جهدت وسائل التعليم الحديث وتطورت في أساليبها، سَتَرَاها تَرْجع إلى هذه القواعد النبويّة في التعليم، فكل موقف له صلى الله عليه وسلم ، يُعتبر قاعدة تعليمية تربوية.

 

أهم المراجع:

1- أصول التربية الإسلامية/ تأليف عبدالرحمن النحلاوي.

2- المنهج النبوي في تربية الطفل/ تأليف عبدالباسط محمد السيد.

3- تربية الطفل في الإسلام/ تأليف عبدالسلام الفندي.

4- بحوث في التربية الإسلامية/ محمود السيد سلطان.