(الجمع بين ما ظاهره التعارض)
أرسل إلي أحد الإخوة الأطباء يقول:
السلام عليكم ورحمة
كيف الأحوال؟
يتداول بعض الناس حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا عدوى)
يعني يرفضون بذلك حصول العدوى في الأمراض،وهذا يخالف الواقع والعلم، هل هناك صحة لهذا الكلام؟
وهناك من ينقل أقوالاً أنه صلِّى الله عليه وسلم نهى عن دخول بلد فيه الطاعون أو الخروج منه. وقالوا إنه ضعيف.
فأين نحن من ذلك كله؟ ويرفضون الوقاية والعزل والحجر. وجزاكم الله خيراً.
--------
فكتبتُ في جوابه:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حديث (لا عدوى) حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم عن غير واحد من الصحابة، أبي هريرة، وابن عمر، وأنس، وجابر. رضي الله عنهم.
وفي أحد ألفاظ البخاري عن أبي هريرة - في نفس الحديث -: وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد.
وحديث النهي عن دخول بلد الطاعون والخروج منه في الصحيحين أيضا من حديث أسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
ولا تناقض ولا تعارض في شيء من ذلك بحمد الله.
فإن معنى قوله: (لا عدوى) أي أن المرض لا يُعدي بنفسه، إلا أن يشاء الله ذلك.
وهذا واضح في الجانب الاعتقادي.
ولكن هذا لا ينفي الأخذ بأسباب السلامة في الجانب التشريعي.
تماما كما أن الإيمان بالقدر عقيدةً، لا يلغي وجوب الأخذ بأسباب النجاة شريعةً.
والجمع بين الأمرين واضح كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ الله وما شاء فعل. فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)
وعلى هذا النحو من الجمع بين الجانب الاعتقادي القلبي، والجانب العملي التشريعي، يسهل فهم الأحاديث التي تسأل عنها في نفي العدوى وإثباتها.
ومن هذا القبيل قوله تعالى في آية السحر: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) [سورة البقرة 102]
فإن رسوخ الاعتقاد بأن السَّحرة لا يستطيعون أذى أحد إلا بإذن الله، لا ينفي مشروعية التحصن والتحصين من السحر.
والأدلة على ذلك متوافرة متظاهرة.
وحسبك بالمعوذتين وبركتهما في التعويذ من السحر، وفي أولاهما قوله تعالى: (وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ فِی العقد) [سورة الفلق 4]
والنفاثات في العقد: هن النساء اللاتي يقمن بعمل السحر.
ومثله أيضا قوله تعالى في قصة إخوة يوسف: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿٦٧﴾ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) [سورة يوسف 67 - 68]
فإن اعتقاد أن العين لا تصيب ولا تؤذي إلا بإذن الله، لا ينفي أن يأخذ المسلم بأسباب الوقاية منها كما فعل يعقوب عليه السلام.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في تعويذ الحسن والحسين رضي الله عنهما: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامّة، "ومن كل عين لامَّة"
والخلاصة: أن الواجب اعتقاد أن العدوى أو السحر أو الإصابة بالعين، لا يضر شيء منها بنفسه، إلا بإذن الله.
وأن ذلك الاعتقاد الواجب لا ينفي ما دعت إليه الشريعة من الأخذ بالأسباب المشروعة للسلامة والوقاية
والله أعلم.
وكتبه: إبراهيم المنصور.
في السابع عشر من شوال لعام 1441هـ
الموافق: 9/6/2020