آخر المواضيع
اخترنا لكم




  الرئيسية    ردود وشبهات   مقالات وأبحاث
كيف انتهت مشكلة الفقر؟!



مرات القراءة:3063    
أرسل إلى صديق
أبلغ عن مشكلة في هذه المادة

 كيف انتهت مشكلة الفقر؟! 

بقلم الدكتور : محمود أحمد الزين

 

الفقر مشكلة كبرى تعيشها دول كثيرة من دول العالم المعاصر، بل يعاني منها ناس كثيرون في دول غنية كبرى تعتبر من أغنى دول العالم، وقد قامت بسببها ثورات كثيرة، هزت الدنيا وذهب ضحيتها الملايين، ودارت حولها دراسات كثيرة، ونشأت حولها مذاهب، والمشكلة ما تزال قائمة.

 

في دولة الإسلام الأولى ـ أيام العهد النبوي والراشدي ـ حلت هذه المشكلة في اليمن بعد زمن يسير من دخوله في الإسلام، فقد عاد معاذ بن جبل والي النبي صلى الله عليه وسلم على بلاد اليمن ومعه صدقات من صدقاتها في بدايات عهد عمر بن الخطاب، فغضب عمر؛ لأن ذلك يخالف نظام الزكاة في الإسلام،وهو: أنها تؤخذ من أغنياء كل بلد فترد على فقرائهم ـ وقال له: ”لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية ـ أي ما بعثتك لتجمع لي المال ـ ولكن بعثتك لتأخذها من أغنياء الناس، فتردها على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني، فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل، فقال معاذ: ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً“(1 ) .

 

كيف حصل هذا ؟ كيف ألغي الفقر في هذا البلد في تلك المدة اليسيرة ؟! إنها عظمة هذا التشريع القرآني الكامل، إذا عالج مشكلة تناولها من جميع أطرافها، والفقر مشكلة ذات أطراف كثيرة، يعالج الناس ـ في غير النظام الإسلامي ـ جوانب ويتركون جوانب، فيعجزون ويفشل الحل، وتظل المشكلة قائمة وإن تغير الأشخاص والأدوار.

 

يبدأ الحل الإسلامي في علاج نفوس الأمة، فيعلمهم أن الحياة الدنيا ليست حياة رفاهية ونعيم، إنما هي حياة سباق ليظهر كل إنسان ما عنده من خير أو شر، ينال جزاءه في الحياة الآخرة، هذا المبدأ يخفف الصراع على ملذات الحياة تخفيفاً كبيراً، أقل ما فيه أنها لا تكون الهدف الأهم في الحياة، وهذا المبدأ يخفف من جشع الفقير إلى المال، فيكتفي من المال بما يساعده على البقاء، والقيام بمهمات حياته وواجباتها، ولا يتهالك على ما في أيدي الناس من المال باذلاً كرامته، ولكن ينافسهم في تحصيل المال منافسة الشرفاء، لا منافسة اللصوص والمحتالين، كما يخفف جشع الغني فيلين قلبه للفقراء، ويعطيهم مما زاد عليه.

 

ثم يعلم ديننا هذا الفقير ويربيه على أن إظهار الاحتياج للآخرين والطمع بما في أيديهم نقص في الكرامة ودناءة يترفع عنها عزيز النفس، ولا يقبل بها إلا عند الحاجة الماسة، فالصدقة رغم أنها حق للفقير عند الغني تجعل الغني فوقه، ففي الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى)(2 ) والعليا هي: المعطية، والسفلى هي: الآخذة، وهذا أيضاً مبدأ يغري الفقير بالعفة والغني بالجود، ثم يعلم الفقير أن العمل فضيلة، وأن مد اليد إلى الناس إنما يكون عند عدم القدرة على الاكتساب، ومن مد يده إلى الناس عن غير حاجة عاقبه الله يوم القيامة ـ فوق ضياع كرامته في الدنيا ـ فيأتي يوم القيامة (وليس في وجهه مزعة لحم) كما قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في الحديث الشريف(3 ).

 

أما الغني الذي لا يعطي الفقراء حقوقهم فيطالب بها حتى يؤديها، فإن أبى أرغمه عليها القاضي، فإن امتنع ودافع بقوة السلاح عن نفسه قوتل حتى يدفعها أو تزهق روحه في ذلك القتال، ثم يلقى ربه وعليه من العذاب مقدار فظيع كما جاء في القرآن الكريم: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم* يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة/34ـ35]. هكذا يربى الأغنياء.

 

 

وبما سبق من توجيهات الإسلام للفقير يدرك هذا الفقير أن العمل فضيلة دينية، كما هو فضيلة إنسانية، بل هو ـ إذا قصد به الإنفاق على النفس والأهل وصيانة النفس والأهل عن الاحتياج إلى الآخرين ـ عبادة تفوق الإنفاق في الجهاد، وفي إعتاق الرقاب، وتفوق الصدقة على الفقراء، كما جاء في الحديث الشريف، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)(4 )، ومن تهاون في ذلك وقع في إثم عظيم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  (كفى المرء من الإثم أن يضيع من يقوت)(5 ) أخرجه أحمد في المسند، ولفظه عند مسلم (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)( 6).

 

وإذا ما عجز الإنسان عن الكسب لصغره أو شيخوخته أو مرضه أو غير ذلك كان حقه على أسرته، والأسرة في الإسلام بناء راسخ يعتمد على العلاقة الطبيعية، وما تقتضيه من تراحم ومودة بين الأب وبنيه، والأخ وأخيه، وأبناء العمومة. هذه العلاقة تلزم كل واحد منهم إزاء الآخر أن يعينه إذا عجز، كما يرثه إذا مات بترتيب قوة القرابة الأب مع أبنائه، والأخ مع إخوته، وأبناء العمومة مع بعضهم، وهكذا حتى ترتفع عنهم الحاجة، التي تدفعهم إلى طلب المساعدة من الآخرين.

 

ثم بعد ذلك إذا لم يكن في أقاربه من يستطيع الإنفاق عليه انتقل الأمر إلى أغنياء الأمة، والغني ليس هو الثري الواسع الثراء، الذي فاض عليه المال حتى لم يعد يستطيع إنفاقه على نفسه، كما يتوهم كثير من الناس لا سيما في غير العالم الإسلامي، إنما هو: كل من كان عنده مال فائض عن حاجته ذو مقدار معين، هو أقل من قيمة مائة غرام من الذهب يحول عليه عام كامل، وهو في يده، سواء كان في المدينة يتعامل بالنقود ذهباً وفضة، أو كان من أهل القرى يعيش على الزروع فيؤدي من زروعه، لكن هذه تؤدى زكاتها يوم حصادها، أو كان من أهل البادية يعيش على رعاية الأغنام والأبقار والجمال فيدفع من ماشيته، يؤخذ منها مقدار معين يسير ينفع الفقير ولا يثقل على الغني، فهو مثلاً في الذهب والفضة يساوي ربع العشر، أي اثنين ونصفاً من كل مائة. هي حق للفقير في ذمة الغني، سواء كان المسلمون دولة ذات قوة ـ تدير هذه الأمور بتنظيمها ـ أو كانوا أفراداً متفرقين لا تقوم حكوماتهم بمسؤوليتها في هذه المسألة، فالمسؤولية الأهم في حياة المسلمين هي المسؤولية أمام الضمير الإنساني الأخوي، الذي أقامه هذا الدين بين الإخوة المسلمين جميعاً، وأمام الله تعالى الذي فرض هذه الحقوق، وهو يحاسب عليها حساباً عاجلاً في الدنيا عن طريق الحاكم المسلم الذي يقاتل مانع الزكاة حتى يقتله أو يدفعها، وحساباً عاجلاً آخر، حيث يحرمه بركتها فيتلف ماله بالمصائب، وينمي المال لمن دفع الزكاة ورحم الفقير، وحساباً آجلاً يوم القيامة يعذب فيه مانع الزكاة، كما سبق، ويكرم فيه دافعها فيكافئه على الحسنة بعشر أمثالها أو يزيد: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة/261].

 

وهذه الزكاة تحمل معنى التعاون الأخوي؛ لذلك يضيع أجرها إذا أوذي الفقير الذي يأخذها: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا …} [البقرة/264].

وليست الزكاة هي الحق الوحيد للفقير على الغني، بل إن الله تعالى أوجب على المسلم ـ وإن لم يكن من القادرين على الزكاة ـ كفارات على بعض المخالفات، ككفارة حلف اليمين إذا حنث به وخالف ما حلف عليه، وكفارة الإفطار في رمضان، وكفارة بعض الأخطاء في الحج والعمرة.

ثم إذا لم يكف ذلك كله فواجب كل قادر على الإعانة أن يعين من يعرفه من الفقراء ـ وإن دفع زيادة على الزكاة ـ لأن الحالة هنا أصبحت حالة إنقاذ، وإهمالها يعني خللاً في الإيمان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)(7 ).

 

 

هذا التحذير الشديد، وتلك المكافآت العظيمة التي أعدها الله للمتصدقين بالزكاة وغيرها ـ كما في آية المضاعفة السابقة، وكثير غيرها ـ جعل كل قادر من المسلمين يسابق أخاه في الإحسان إلى الفقراء، ووجدت نماذج عجيبة جداً، كان لها أثرها العظيم في نجاح التشريع القرآني في القضاء على الفقر.

 

وشاركهم المتوسطون بالمواساة، وشاركهم الفقراء أحياناً، فكانوا: {يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.

 

والإيثار خلق رفيع يتجاوز أداء الواجب، ويتجاوز المواساة. أما الواجب فهو الزكاة والكفارة، وأما المواساة فهو أن يحتفظ بنصف ماله ويتصدق بالنصف الآخر، والإيثار أن يقاسم الفقراء فيما يحتاجه، وربما لا يبقى منه شيء.

 

وهي حالة خلقية يرقى فيها الشعور الإنساني عند المتصدق حتى يحس بأخيه أكثر من نفسه، أو يكون عنده من الإيمان ما يدفعه إلى التفكير في مكسب الآخرة أكثر من مكسب الدنيا، حتى يقول دافع الصدقة للفقير: أهلاً بحامل زادي إلى الآخرة، قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر/9].

 

 

وقد كان من أعظم أبواب التعاون الأخوي بين الأغنياء والفقراء الصدقة الجارية، وهي المعروفة في العالم الإسلامي باسم الوقف والحبس، حيث كان الأغنياء يعيِّنون شيئاً من أموالهم يؤدي نفعاً مستمراً، فمنهم من يبني المستشفيات ويخصص لها عقارات مبنية أو غير مبنية تؤجر، وينفق أجرها على المستشفى، ومنهم من يبني التكايا، وهي فنادق مجانية تقدم السكن والطعام لكل محتاج، ومنهم من يبني الجسور ويحفر الآبار ويشق الترع، كل ذلك في سبيل الله ورعاية لجميع المجتمع.

هذه التنظيمات المحكمة من تكوينات اجتماعية،وقوانين إلزامية، وعقوبات حاسمة تستند إلى عقيدة دينية، وتربية روحية تربطان أداء الواجب التعاوني إلى الفقير مع الله تعالى، الذي يكافئ مؤديها، ويعاقب مانعها.

كل هذه الأمور أدت إلى نجاح الحل الإسلامي في محاربة الفقر خلال زمن يسير حطم كل الأرقام القياسية، حيث حلت مشكلة الفقر في اليمن في أقل من خمس سنوات، وأرسل فائض زكاتها إلى خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  في قطر آخر هو الحجاز.

حلت المشكلة التي أعجزت دولاً كثيرة في عصرنا الحاضر، منها دول تعتبر من أغنى دول العالم، حلت المشكلة التي من أجلها سالت الدماء وقامت الحروب، ثم باء الجميع بالفشل إلا الأقل النادر.

حلت في التشريع القرآني الذي جاء من قلب الصحراء العربية، حيث الأمية المطبقة إلى كل أرجاء العالم المتحضر؛ ليعلمهم الحل، وليقول لهم: إن الأمي لا يمكن أن يُعَلِّم أهل العلم إلا إذا أيده العليم الخبير الذي خلق البشر جميعاً، وعلم ما يصلحهم وما يفسدهم، فأوحى إليه هذا القرآن الذي {يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء/9]. صدق الله العظيم

 

 

 (1) انظر: كتاب الأموال، للإمام الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام ص (710) ط: دار الفكر.

 

(2) صحيح البخاري، في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم (1362)، وصحيح مسلم، في الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير، برقم (1033).

(3) صحيح البخاري، في الزكاة، باب من سأل الناس تكثراً، برقم (1405)، وصحيح مسلم، في الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، برقم (1040).

 

(4) رواه مسلم في الزكاة، باب فضل النفقة على العيال، برقم (995).

(5) مسند أحمد (2/195) برقم (6495).

(6) صحيح مسلم، في الزكاة، باب فضل النفقة على العيال، برقم (996).

 

(7) مصنف ابن أبي شيبة (6/164) برقم (30359)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (8/167):

”رواه الطبراني والبزار، وإسناد البزار حسن، وذكر حديثاً آخر (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع) وقال: رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجاله ثقات“.