مجالسة أهل الله
الإنسان لما يصدق يستمر يصدق حتى يقعد مع الصادقين ولا يفارقهم حتى يكتب عند الله من الصادقين الصدّيقين، الصدق يجره إلى الخير، والخير يجره إلى الجنّة، نعم إذا كان اعتقاده سليماً، ولما يجلس بالمجلس لا يرى إلاّ المرجع، اللهمّ صحيح، هذا له علامات العاقل لا يتكلّم لكن حاله صدق إذا ما تكلّم لسانه لكنه موجود مع أهل الله ويعبئ من النور حتى يظهر على الفاسق ويخاف منه من النور الإلهي، الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً بالشهود مع الحضرة الإلهية نصرت بالرعب من مسيرة شهر كامل (1) كان من رآه على بُعد فقد هابه , هيبة من الذات الإلهية ظاهرة فيه لأنّه دائماً بالشهود وبالأدب مع الشهود.. يجلس مع أهل الله بالأدب آداب خاصة يتذوق منهم، تبين عنده شيء من الصدق والنزاهة، يتغذى وينمو حتى يفهم العلوم كلّها ولو ما درس العلم، ويفهم أكثر من الّذي درس العلم، سيّدنا الصدّيق كانت مدته قليلة سنتين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن أي علم عنده؟ المجالسة مع أهل الله تفيد إذا كان يوجد صدق وأدب، وإلاّ فمجرد الجلوس بالجسم مع أهل الله إذا ما كان نورانياً قد تبعده عن أهل الله، معرفة أهل الله أصعب من معرفة الله، الله معروف لأنّه مخالف للحوادث خالق المخلوقات، لكن الولي مثلُنا يأكل ويشرب ويعمل.. الّذي يريد أن يجالس أهل الله قبل كل شيء عنده اعتقاد سليم لا مجيء بصورة منتقد انتقاد سيّدنا موسى لسيّدنا الخضر هذا من الكمال، انتقاد علمي، خالف صورة العلم عليه أن يبين له مثل ما بين له سيّدنا الخضر مع كون سيّدنا الخضر أخذ عليه العهود أن لا يسأله مع أن سيّدنا موسى مبعوث من قبل الحضرة الإلهية، لما خطب سيّدنا موسى الخطبة التي ذرفت منها العيون قالوا: يا كليم الله، هل هناك أعلى منك؟ قال: لا، فقال له الحق: بلى يوجد أعلى منك رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، قال له: أين يارب؟ قال له: في مجمع البحرين، فذهب إليه.. سيّدنا الخضر عندما رآه من بعيد غطى وجهه فجاء ووقف جنبه ورمى السلام وقعد {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } [الكهف 65 ] هذا علم الذات الإلهية، هذا اختصاص {قال له موسى هل أتّبعك} [ الكهف 65 ] جاء تلميذاً بعثه الله، ما بقي كلام! انظروا القوّة الله باعثه تلميذاً وقال له: أعلى منك، مع هذا لما يعمل سيّدنا الخضر قضية مخالفة للشريعة ينتقده سيّدنا موسى، هذا كمال وقوّة، سيّدنا موسى ما أجمله لما استسلم له بعدها الاستسلام الكلي، سؤال سيّدنا موسى وإنكاره على سيّدنا الخضر هذا هو الحق، ديننا هكذا لا توجد مواريات، ديننا دين حق، الّذي يريد الجواب الحق عليه أن يستسلم، وهذه لا يقدر عليها إلاّ صاحب النفس التي تزكّت، النفس غير المزكاة لا تقدر عليها أبداً، تقوم تبحث عن القول الضعيف حتى تردّ عليه (تلفّ وتدور!) { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً؟ } قال له سيّدنا الخضر {إنّك لن تستطيع معي صبراً؛ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} (الكهف 68) سيّدنا موسى أعلى من سيّدنا الخضر بما لا يقاس؛ سيّدنا موسى نبي ورسول ومن أولي العزم بالاتفاق، أما سيّدنا الخضر فمختلف فيه، قيام سيّدنا موسى كلّه مظهر للشريعة مظهر للعلماء، يعني يقول للعلماء يا علماء، مهما كان فأنا أعلم منكم لأنني رسول الله، انتقدوا مثلما أنتقد لكن انتقاداً أدبياً.. سيّدنا الخضر أخذ عليه العهود إذا صحيح الله باعثك (سيّدنا الخضر عنده خبر لكن تجاهل) قال له: فإن اتبعتني تكن أديباً فلا تسألني عن شيء.. أخذ عليه العهود لكن هذه العهود ما أخذ بها سيّدنا موسى، أكثر ما يظنّون أن سيّدنا موسى أخذ بها، لا لا لا أبداً، شرط أساسي أنَّ سيّدنا موسى ينتقد، لا ينتقد لمذهب؛ ربما المذهب الثاني صحيح، سيّدنا موسى كان ينتقد من حيث الشريعة أي صورة الشريعة، وكان سيّدنا الخضر بالحقيقة، خالف الشريعة بالصورة، سيّدنا موسى طار عقله لما خرق السفينة مع أنهم أركبوهما مجاناً! يعلّم الخضر، والخضر يعرفها كلّها، أما سيّدنا موسى فيعلمنا نحن انه ولي من غير شريعة لا يصير، الولي عليه العمل بالشريعة، الشريعة رمز من الحيّ إلينا، قال الحق { لنحيينه حياة طيبة } [النحل97] هذا للذي يطبق الشريعة، بالصورة سيّدنا موسى آتٍ يتعلم لكن بالحقيقة آتٍ يعلمنا، هكذا افهموا سيّدنا موسى، وضعها الله في القرآن قواعد حتى تصل إلينا، كل من مشى عليها سلم { قال أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئتَ شيئاً إمراً } (الكهف 71) منكراً! قال سيّدنا الخضر: الله باعثني أحفظ السفينة لأهلها، لأن الملك عنيد يأخذ كل سفينة جديدة جيدة غصباً..
الّذي أحق بالعلم القلب الطيب أبو النفس المزكاة، هنا يجب علينا أن نحترم العلماء مهما كان شكلّهم ولو واقعاً بالحرام والمخالفة؛ لأنّه عنده علم حامل العلم، هو يعرف حاله اذا عمل عمل مخالفة بما عنده من العلم، ربما يأتي يوم يتوب، سيّدنا موسى جاء معرِّفاً ومؤدِّباً ومهذِّباً ويرد دعوى المدّعين، سيّدنا موسى { قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني.. } (الكهف 76) لو لم يقل هذا سيّدنا موسى لكان يجيبه ولو ألف سؤال! قال له سيّدنا الخضر: الآن أعلّمك :أمّك عندما وضعتك باليمّ حتى تخلصك من فرعون وأنا كذلك خلصت السفينة من الملك رأوها معيبة فتركوها، وأنت قتلت القبطي وأنا قتلتُ الغلام والحق أعلم أنه (أي الغلام) سوف يكون شقياً ولكي أخلّص الأم والأب منه، وعُمر الغلام خلص فقتلته بعدما خيرَّتُ الأم والأب أن هذا الغلام كذا وسيعوضكم ببنت ويأتي منها نبي، فوافقا على قتله، العمر والرزق لا يزيد ولا ينقص، الزيادة في البركة فقط، بعض الأوقات يموت واحدٌ ويرجع؛ هذا لابدّ أن يستكمل رزقه ثمّ يرجع يموت.. والقبطي أنت قتلته حتى تخلص الإسرائيلي؟ قال: نعم، أما الثالثة: طلبنا منهم وما أطعمونا وأنا مبعوث فأقمت الجدار (هذه كرامة لسيّدنا الخضر) سمّى بالرحمن وأرجعه؛ لأنّه يوجد تحت الجدار كنز، وهذا الكنز وضعه الأب من عاشر ظهر عند الله أمانةً قال له: يا ربّ، هذا الكنز أمانة عندك لولد صالح من صلبي! والولد الصالح يظهر قريباً فإذا تركت الجدار ينهدم سوف يأتي بعضهم ويأخذ الكنز، وأنت يا موسى لماذا سقيتَ لبنات شعيب بدون مقابل؟ ثلاثة أنت عملتها! هذا كلّه تعريف لنا، سيّدنا موسى أعلى ويعلم بذلك وسيّدنا الخضر بيَّن قال له { وما فعلته عن أمري } (الكهف 82) هذا كلّه من عند الحضرة الإلهية .
سيّدتنا رابعة العدوية قالت: ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، إلاّ أنّك إله تستحق العبودية، هذه تكلّمت من نزاهتها، والكلام الناضج لا يخرج إلاّ من النزاهة، النزيه تأتيه علوم لا يعلمها إلاّ النزيه أو أنزه منه، سيّدتنا رابعة العدوية رضي الله عنها كانت مشهورة بالعبادة والمحبة، الّذي نالته بالنزاهة، في زمانها أي عالم كبير كانت تقول له: ما أراك إلاّ رجلاً تحبّ الدنيا!! هذه نزيهة درجة أولى، ما توجهت إلى الله لغرض نفسها ألبتّة، صاحب هذه المرتبة واصل ما انقطع بتاتاً، دائماً الأمور تخدمه، حتى كل شيء في الوجود يخدمه، كان رفيقها أحد الأكابر شيخ من المجتهدين، ما أراك إلاّ رجلاً تحبّ الدنيا! يقول لها: صدقتِ، كان يكتب الحديث،هو سيّدنا سفيان الثوري, أرسل مرةً هارون الرشيد أحد وزرائه برسالة إلى سفيان الثوري إن كان بحاجة إلى مال اوإلى شيء! سافر الوزير إلى الكوفة، فسأل: أين سفيان الثوري؟ دلّوه.. دخل المسجد ووجد الشيخ يعطي درساً، فقعد ينتظر إلى نهاية الدرس، بعدها تقدم إلى الشيخ وسلّمه الرسالة، فأعطى الشيخ الرسالة لأحد تلاميذه ليقرأها، ثمّ قال الشيخ للتلميذ: اقلب الرسالة واكتب يا هارون، أما كفاك أن تسرق بيت المال حتى تجعلني شاهداً عليه؟! فتأثر الوزير بحال الشيخ اُخذ.. وذهب للسوق واشترى جبة وعمامة وعاد إلى الخليفة هارون الرشيد، والحرس أوّل الأمر ما عرفوه! ودخل إلى هارون.. فقال: نالها الرسول قبل المرسِل! قرأ الرسالة وأخذ بالبكاء، وبطانته قالوا: لابدّ أن يعاقَب هذا! قال: لا، لا.. الخليفة قبل كل صلاة يقرأ الرسالة ثمّ يصلي.. هذا سفيان الثوري، لمثل هذا قالت رابعة العدوية: ما أراك إلاّ رجلاً تحبّ الدنيا، وهو كان يكتب الحديث، يعني تقول له: أحسن من أن تكتب الحديث على الورق اكتبه في ذاتك.. النزيهون قليلون في العالمَ، هؤلاء ذاتيون، الحق من كرمه وحكمته لا يوظفهم وظائف لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكنهم حاكمون على الكل، سيّدتنا رابعة العدوية كانت تتكلّم مع سفيان الثوري ومع غيره من باب النزاهة .
وقيل إن رابعة العدوية كانت تطبّق قدراً كانوا يبقون الأيام الطويلة يشتهون الملح أو البصل ما عندهم، حتى يبعث الله لهم، لأنّهم مهتمّون بروحهم أكثر من جسمهم، وأغرب من ذلك الإنسان عندما يشتهي أكلة ويحبها بعد أن يأكلّها يصير عنده رد فعل، هذه الشهوة العظيمة الرقيقة اللطيفة ذهبت منه لأنّه أخذها بشهوة، العاقل لا يأخذ شهوته أبداً في أي شيء؛ مراده مرجعه ما عنده غير هذا، هؤلاء أهل الله يشتهون على ملح أو بصلةٍ، كانوا يأكلون الخبز بدون ملح، خصوصاً في مجاهدة ورياضة نفوسهم، عندما يأكلونها يبتليهم الله ابتلاءات ويقع من ذلك كثير، إذا كان له مرجع هو يعلّمه ويعرّفه ويفهّمه، وإذا ما كان عنده مرجع هذا المسكين يأكل كل ضربة أكبر من أختها!..
النزاهة صفة لا تتجزأ، مثلاً: شخص نزيه خمسة بالمائة أو أكثر فهذا المقدار هو على حسبه، عنده منها بمقداره، هذا جيد عليه أن يستمر في السير، كلما تطهرّ أكثر يصير عنده نسبة أكثر، إيمانه صار بالله يشهد لا يوجد مقدِّر ولا مدبِّر ولا محرِّك ولا مسكِّن، يشهدها شهوداً، وقد يكون شهوده ضعيفاً ساعة دون ساعة، عدة ساعات يصير عندهم كاملاً، وعدة ساعات أخرى يصير إيمانه ضعيفاً جداً تتقاذفه الأهواء! وفي بعض ساعات متوسطاً، وحسب طهارة النفس وعدمها، والطهارة قد تكون أصلية أو عرضية، وأقوى شيء في الوجود الّذي يقعد مع أهل الله مطمئناً منهم، يطلع نور أهل الله ظاهرا عليه، به يدرك ويخرج من لسانه كلام وقضايا ومسائل من أهل الله، ودليل ذلك عندما يبتعد عنهم لا يبقى معه شيء، تروح منه بل يضيع بتاتاً! كلما ازداد قرباً (ليس جسماً) قربا روحانياً وهو صدق الطلب .
(1) : صحيح البخاري برقم (328) 1/ 128.