الإنسانية
تنبيه
حينما نطلق كلمة إنسان أو آدميّ على أحد فهي للمعاني الخيرة وللغرائز الحميدة فيه، ولكونه جمع من صفات الكمال الإنساني أعلاها وأحلاها.
فإذا انعكست صفاته نطلق عليه أنه ليس آدمياً ولا إنسانياً. إذ إن مفاهيم الإنسانية والآدمية معشوقة لدى جنس البشر، بغضّ النظر عن دينهم ومعتقدهم ولونهم وقوميتهم.
وبالتالي نخلص إلى أن " الإنسان ليس هو الحيوان الناطق، كما زعم المناطقة " ليستوي بتعريفهم جنس البشر إنسانياً كان أم لا، إذ الآدمي والإنساني الّذي يمتلك الكمالات الإنسانية ويتعامل بها، قال الله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين 4 ] فمن ضيع إنسانيته فهو ضائع، ومن قتلت إنسانيته فهو مقتول، يمشي بلا هدف، ويعيش فوضى { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [الأعراف 179] وكما أن جوف الإنسان يتحسس إلى الماء والغذاء، فإن قلبه وروحه وسمعه وبصره تتحسس النقص الإنساني فيه!. وهناك دافع ذاتي في كل آدمي يبحث عن الحقيقة، فإن لم يجدها عانى من التيه والحرمان، وربما أدّى به إلى الانتحار!!.
ووظيفة الوارث المحمّدي إرجاع الآدمي إلى آدميته وإنسانيته فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال عليه الصلاة والسلام: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1)، وقال سيّدنا النّبهان رضي الله عنه :
ما خلق الله يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً ولا كافراً ولا مشركاً ولا شقياً، كلّه عارض، وجاءت الشريعة حتى تردّك إلى أصلك.
فيذكر رضي الله عنه الإنسان بفطرة الكمال الإنسانية المودعة فيه، ليرده إليها ليبني شخصيته، ويعرِّفه حقيقته، ويأخذ بيده إلى بارئ الإنسانية ومشرّع قوانينها، حتى يصل به إلى الكمال، فيكون عبداً لله تعالى، وخليفةً له في أرضه، وهذه قطفات من أزهار دعوته إلى الإنسانية (2) قال رضي الله عنه :( الإنسان لا يمكن أن يأخذ الدين من أصله إلاّ إذا كانت إنسانيته كاملة { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [التين، 4] الإنسانية قبل الإسلام (3) ، والّذي ليس عنده إنسانية ليس قابلاً للإسلام، وأدنى الإنسانية: عامِل الناسَ كما تحبّ أن يعاملوك به، وأعلى الإنسانية: أن تعمل بدون غرض، فمن ذاتك تعلم وتعرف وتذوق، وضمن الإنسان السرّور والعلم والمعرفة {باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [الحديد 13] وما رأيت فلكاً كبيراً إلاّ فلك الإنسان فقط، كل الأفلاك العلوية والسفلية مندمجة في فلك الإنسان وفلك الإنسان يمدهم كلّهم، والإنسان يستمد من الرحمن {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] بعضهم يقول: لابدّ للإنسان أن يزيل بشريته البشرية هي حاجة الإنسان إلى الشراب والطعام هذا غلط!.
البشرية هي الكمال(4)، بشرط أن تكون تحت أمرنا كما نأمرها تأتمر؛ الحق خلقنا بشراً
محمّد بـشـر وليـس كالبشـر بـل هـو ياقوتـة والنـاس كالحجـر
سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم حكم على البشرية، بشر بالصورة لكن حاكم بالحقيقة على بشريته وصار هو المسؤول في الوجود، فالبشرية تصير تحت أمر الإنسان..
أتزعـم أنّـك جـرم صغيـر وفيـك انطـوى العـالم الأكبـر
الإنسان يدلّك على الله وعلى رسول الله، وإن رسول الله هو أعظم إنسان ومرشد العبيد إلى الله، والإنسان مراد الله في أرضه، الموجود مع الإنسان غير موجود مع غيره، الموجود مع غيره كلّه موجود في الإنسان؛ لذلك لا يصلح للخلافة إلاّ الإنسان { ما فرّطنا في الكتاب من شيء } [الأنعام 38] عند أهل الله: الكتاب هو الإنسان(5)! كل إنسان لا نعني به أهل النفوس وإنما الإنسان أهل الإنسانية { بل الإنسان على نفسه بصيرة } [القيامة 141] الإنسان مهما كان، إنسان صادق ويحاسب نفسه عنده تمييز درجة أولى يعرف كل شيء، فالإنسان البصير هو الإنسان، الإنسانية فوق كل الكمالات لابدّ أن نحفظها، يحفظها الإسلام، جاء الإسلام قانوناً للإنسانية .
الإنسانية أعلى من الملائكة، الحق خَلَقَها كاملةً، قابلة للحسن والسيئ(6)، فالّذي يسيء ويخالف الشريعة، ويميل للمدنية(7)، ويحب الدنيا قطع الصلة مع الحضرة الإلهية، والّذي يضع اللحية والعمامة لا يليق به أن يقع منه خلاف الأولى، ولا يعمل المباح إلاّ بالنيّة، يقلبه فرضاً أو سنّة أو نفلاً أو ما شابه ذلك.
الإنسانية جمعت أو عكست إنسان العين، الوجود كلّه عين، والحق يقول {واصبر لحكم ربك فإنّك بأعيننا } [الطور 48] يعني أنت الإنسان، أنت النور، بك الإدراك، نحن عين كلنا، السماء والأرض والعرش.. وسيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم هو البصر هو الإنسان .
الضمير في الإنسانية، والّذي ما عنده ضمير لا يفهم شيئاً، الإنسان لما يدرك يدرك بمقدار شخصيته الإنسانية، لأجل ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم شخصيته ما كان أكبر منها أبداً ولا أجمل ولا أبهى ولا أتمّ ولا أكمل، من هنا مدحه الحق قال { ما زاغ البصر وما طغى } [النجم 17] مع كونه { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم 18] رأى الآيات الكبرى بمقدار شخصيته، ولا قدر أن يسير مع الشخصية العظيمة إلاّ سيّدنا الصدّيق رضي الله عنه أي السير الأتمّ والأكمل. في السير والسلوك بعض الأفراد أحباب الله تصير عندهم لوعة، هذه تتمكن إذا رجع إلى إنسانيته التي خلق عليها كل مولود يولد على الفطرة.. (8) .
هذه القضية تقويه، ولبـُعد الناس عن هذه المرتبة الإنسانية صار يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً..لذلك الحق عزّ وجلّ ما عنده أعلى من الإنسانية، أعلى من كل شيء، لا تعتقدوا أحداً يفهم الإسلام من غير الإنسانية أبداً، والّذي ما عنده إنسانية ما عنده استعداد أن يصير مسلماً (9) وإن صلّى وإن صام! الملائكة أشرف من الإنسان، والإنسان أكمل من الملائكة، كمال الإنسان وضع الأشياء في محلها بالأمر الإلهي لا بعقلياته.
صاحب الإنسانية الكاملة لا يتطلب المعجزات، لأنّه { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [الذاريات 21] الكمالات كلّها موجودة في الإنسان، فالمراد منه أن يدلّ الناس على كمالات الله .
العاقل لا يعمل مخالفة لا صغيرة ولا كبيرة، والّذي ما عنده إيمان ما عنده إنسانية، ما عنده رأس مال بتاتاً، ما عنده قوّة، فالإنسان الّذي لا يستسلم لله هذا بعيد عن إنسانيته عن حقيقته عن معنويته، الإسلام قانون إلهي للإنسانية، والإنسان سعيد ما دام ضمن هذا القانون، وشقيّ ما دام خارجاً عنه، الإسلام نور إلهي جامع للكمالات كلّها، الإسلام مرتبة حافظة تحفظك وتحفظ منك.
الإنسانية يلزمنا حفظها، يحفظها الإسلام، جاء الإسلام قانوناً للإنسانية، الإنسانية لا يوجد أعلى منها، أعلى من الملائكة، الأصل في الإنسان الإنسانية وليس الإسلام { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين 4] الّذي ما عنده إنسانية ما عنده استعداد أن يقبل الإسلام، عامل الناس كما تحبّ أن يعاملوك به، إذا كنت لا تريد أن يتكلّم الناس عليك كلاماً دنيئا لا تتكلّم أنت عليهم كلاماً دنيئا، الإنسان لا يمكن أن يأخذ الدين من أصله وبحقيقته إلاّ وإنسانيته كاملة، الإنسان فيه الخلافة ومستعد أن يكون خليفة الله في الأرض، وكل المعارف موجودة عند هذا الإنسان، وهو يأمر وينهى، هذا هو الإنسان الّذي يستمد من ربه { فِتْيَةٌ آمَنُوا بِربّهم وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف 13 ] .
الإنسان عندما لا تبقى عنده حجب يقدّر مرتبة الخلافة التي أعطاها الله له، الإنسان عظيم.. جامع.. الملَكية في الإنسان والجنّية والشيطانية في الإنسان، والحيوانية والنّباتية والجمادية فيه كذلك! والإنسان الحيواني في الإنسان، أيُّها تغلب عليه يكون الحكم لها! الصفة التي تغلب عليه تظهر، أعلاهم إنساني، هذا يدلّك على الله، الخلافة غير موجودة إلاّ عند الإنسان، لا الملَك ولا غير الملَك، بل يتتلمذ الملَك عند هذا الإنسان، يستفيد علوماً لا يعرفها من قبل! { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين 4]{ قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون } [الأنعام 91] الّذي يوصلنا إلى الله، الّذي وصل إلى الله {إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة 30] {هو الّذي ينـزل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } [الحديد 9] صدق الله العظيم.
فهكذا يذكرّ رضي الله عنه الإنسان بإنسانيته، ويعرّفه بالإسلام قانون الإنسانية المبني على جلب المنافع للناس ودفع المفاسد عنهم، يحمي ويحفظ ضرورياتهم الخمس الدين والعرض والنفس والمال والعقل، ولا تكاد تجد شيئاً في الإنسانية إلاّ داخلاً في دائرته، ولا في الإسلام شيئاً خارجاً عنها فمنه ظهرت الإنسانية ومنه توزّعت وعلى ضوء أمره ونهيه تحكم) .
-------------------
(1) صحيح البخاري: برقم (1319) 1/ 465.
(2) من كلام المؤلف.
(3) يعني: من لم تكن عنده إنسانية لا يمكن أن يصل إلى الإسلام ويعمل به.
(4) يعني: كل صفات البشرية ومقوماتها من عقل وقلب... إذا وضعت تحت أمر الشريعة أصبحت كمالا، أما إذا وضعت في غير موضعها الشرعي فذلك يؤدي إلى الفساد.
(5) يعني: الإنسان الذي كملته آداب كتاب الله فجعلت له بصيرة كما يتضح ذلك مما بعده.
(6) أي الاستعداد الإنساني فيه قابلية للحسن والسيئ، فإذا كملته آداب الشريعة صار حسنا خالصا.
(7) المراد بالمدنية هنا: ما جاء إلينا حديثا من عادات الأمم الفاسدة، وهو ما يقال له (الموضة) وليس المراد بالمدنية المعنى اللغوي كما سيأتي لاحقا.
(8) : أخرجه البخاري برقم (1319) 1/ 465 ، ومسلم برقم (2658) 4/ 2047.
(9) :عني بذلك الإسلام الحقيقي لا الإسلام الصوري كإسلام المنافقين قوله تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } الحجرات: 14 .