آخر المواضيع
اخترنا لكم




  الرئيسية    أسفاره ورحلاته وزياراته
رحلة العراق الثانية



مرات القراءة:9135    
أرسل إلى صديق
أبلغ عن مشكلة في هذه المادة

الرحلة الثانية :

رحلة العراق الثانية:

 

عاد الشيخ إلى العراق في رحلته الثانية وأظنها في أواخر عام 968 ا وذكر الشيخ هشام الألوسي العراقي في كتابه عن السيد النبهان ، أنها في العاشر من شهر تشرين الثاني عام 1969 ، ووصف هذه الرحلة في كتابه بقوله : في العاشر من تشرين الثاني سنة 969 ا  وفي الوقت الذي كانت الطائرة تجوب سماء العاصمة العراقية كان المطار قد غص بجموع المستقبلين من أنحاء البلاد لاسيما العلماء وطلبتهم الذين أضفوا على المطار بهاء من العمائم البيض ، وكان يوماً مشهوداً أنشد فيه الناس طلع البدر علينا وحملوا الشيخ قدس الله سره من الزحمة إلى قاعة المطار فيما أعد العراقيون موكباً وإذاعة ليسيروا به في شوارع بغداد قبل أن يصل رضي الله عنه المكان المهيأ للضيافة ، إلا أن الرجل الذي تأبى عبديته الطنطنات  رفض أن يشيع بموكب ، فعمد إلى سيارة متعبة شكلاً وحالاً فنحا بها جهة ضيعها على مستقبليه ، بينما تفرق الموكب ، وبقية سيارة إذاعة تعلن في المدينة هنيئأ لكم يا أهل بغداد لقد قدم اليوم إلى العراق العارف بالله الشيخ محمد بن أحمد النبهان .

لقد نزل في بيت من بيوت الله تعالى حتى إذا تفرق الجمع عاد إلى البيت الذي دعي إليه ).ا.هـــ من كتاب السيد النبهان للمؤلف هشام الألوسي ص121-122

ووصف الشيخ هشام الألوسي الذي كان يرافق الشيخ في مجالسه وتنقلاته في الأيام السبعة التي قضاها الشيخ في العاصمة العراقية ، وما تضمنته تلك الزيارة من احتفالات تكريمية كبيرة في كلية الشريعة وجمعية التربية الإسلامية وغيرها ألقيت فيها الخطب والأشعار التي ترحب به كما وصف زيارة الشيخ لمقام سيدنا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وما أحدثته تلك الزيارة في نفوس الناس من فرح وهيام حتى كادوا أن يفقدوا عقولهم ، وحملوا الشيخ على الأعناق وهم يهتفون ويصرخون ، وكانت ساعة عظيمة من الأذكار والصلوات).

وختم الشيخ هشام الألوسي وصفه للزيارة بقوله : وكما احتفلت بغداد فقد عاشت المدن التي مر بها ربيعاً محمدياً ، وقضى أهلها أعياداً فريدة في الفلوجة والرمادي وهيت وكبيسه والخالدية وديالي بما لا يسعه قلم واصف ، وهكذا كلما دخل مدينة أو خرج زف إياباً وذهاباً من المساجد والبيوت والشوارع ، فالخطب والأشعار مرافقة لحركة أقدامه ، ولا وطأت أرضاً إلا وأعقبت غرساً صالحاً وخضاراً مباركاً لا تزال آثاره كانت زيارة الشيخ الثانية إلى العراق فتحاً عظيماً ما يزال أهل العراق يذكرون تلك الأيام بفرحة واعتزاز ، يذكرون كل مكان حلّ فيه وكل بيت دخله ، وكل طريق سار فيها ، وكل كلمة قالها وكل إشارة أومأ بها ، إنه الحب بلا حدود ، إنه الإيمان الصادق ، إنها الشعلة التي أوقدها الشيخ بتلك الأرض الطيبة ، بلاد الرافدين العظيمة ، شعب الحضارات المتعاقبة . أحب الشيخ العراق كما أحبته ، لو اختار الهجرة من أرضه لاختار العراق موطناً لهجرته ، رأى في العراق صدق الرجال والهمم العوالي ورأى فيها القيم العظيمة التي أحبها في طفولته وتمسك بها ، وأهمها قيم الرجولة والشجاعة والمروءة والسخاء والشرف والوفاء . ومن المؤسف أنني لم أرافقه في رحلتيه إلى العراق ، كنت في الكويت حيث سافر الشيخ من العراق إلى الكويت ، وقضى يومين فيها ، واستقبله السيد يوسف هاشم الرفاعي الرجل الصالح ، وكان وزيراً يومها ، وأعدت له الحكومة الكويتية ضيافة كريمة له ولمرافقيه في إحدى دور الضيافة  ولم يكن من عادته أن ينزل في ضيافة الحكومات وأقام في منزلي ، وأقام مرافقوه في دار الضيافة . كان يرافقه في زيارته القصيرة إلى الكويت الأمير ناظم العاصي زعيم قبائل العبيد في شمال العراق ، وكان من إخوان الشيخ ومحبيه وملازمي مجالسه ، وكانت سمة الإمارة واضحة في شخصيته وملامحه ، عرف الشيخ وأحبه ولازمه ، كما كان يرافقه عدد من إخوانه من حلب والعراق . سعدت بزيارة الشيخ إلى الكويت ، أحسست بالفرحة والبهجة ، حدثني عن سروره بلقاء إخوانه في العراق ، لم يسعده ذلك الاستقبال الحافل ، وإنما أسعده ما لاحظه من صدق أصحابه ومريديه ، وأهل العراق ليسوا أهل شقاق ونفاق وإنما هم أهل صدق ووفاء ، إذا أحبوا صدقوا ، وإذا عاهدوا وفوا ، هم كنهرهم الخالد دجلة يعجبهم شموخ السجايا ، ويتدفق الخير في طباعهم كما تتدفق المياه في نهرهم العظيم ، لا يحبون النفاق ، يتمردون على الباطل دفاعاً عن الحق ، وهم أوفياء لعظمة تاريخهم ، لا يتنازلون عن مكرمة بناها أجدادهم ، شادوا في أراضيهم الخصبة مقامات الوفاء والمحبة لرموز بيت النبوة ، وسقوا سراج العلم والمعرفة في كل مكان . لم يسعد الشيخ بزيارة سابقة أو لاحقة كما سعد بزيارة العراق ، كان يحدثني عن إخوان العراق بسعادة وفرحة ، إذ بقيت بلاد الرافدين رمزاً للوفاء ، وزرت العراق بعد عشرين عاماً من زيارة الشيخ الأخيرة لحضور مؤتمر السلام في بغداد ، ورأيت الأرض الخصبة ما زالت رطبة وكأنها سقيت بالأمس ، ورأيت الشيخ في كل قلب وفي كل دار وعلى كل لسان . لم يغب الشيخ عن العراق ، ما زال فيها بروحه ، ملامحه ما زالت هناك ، آثاره باقية ، مجالسه مستمرة ، الشيخ الحقيقي يستمر من خلال روحه وتوجيهاته في القلوب يوقد السراج ويضيء نوره بزيت محبة العبد لربه . رحل الأوائل من إخوان الشيخ في العراق الحاج محمد الفياض ومحمود مهارش الكبيسي وجاسم الفياض وعبد العزيز البدري والشهيد أيوب الفياض الشاب التي استشهد في طريقه إلى الشيخ عندما بلغه خبر وفاته ، مات بعد أن ودّع الشيخ على أبواب حلب في حادثة سير  قال لي وهو يودعني قبل وفاته بدقائق : أريد أن أظل إلى جانب الشيخ في عالم النور وعالم اللطافة ، حيث لا موت ولا حياة ، ولا حجاب يحجب الأحياء عن الأموات .

ومازالت أنظار إخوان العراق مصوبة إلى حلب الشهباء ، تشتاق بقلوب صادقة وتعانق النسمات القادمة من الغرب ، وتحملها أجمل مشاعرها وعواطفها .

وتذكرت ذلك الشاب الصادق الذي لم يتجاوز سنة السادسة عشرة من عمره الذي زار الشيخ قبل خمسين عاماً ، وأحبه وتعلق به ، واشتهر بصدقه بين إخوان الشيخ الذين كانوا في سن والده ، وأبعدوه عن المجالس ، فكانوا يجدونه في كل مكان يذهبون إليه ، كان هذا الشاب هو يحيى بن حمد الفياض المحب الأول الذي أحبه إخوانه في العراق ، ثم بدأت الباقة الخضراء تنمو وتكبر ، وضمت الشيخ عايش الجروان والشيخ هشام الألوسي والشيخ حامد السخي والشيخ صلاح الفياض وعشرات غيرهم . (من كتاب الشيخ محمد النبهان للدكتور محمد فاروق النبهان،)

نقتطف بعضاً مما ذكره الشيخ هشام عن هذه الزيارة فيقول :في يوم الأحد 8/شوال/1388هـ الموافق 28/كانون الأول/1968م من دمشق إلى بغداد بالطائرة وفي الوقت الّذي كانت الطائرة تجوب سماء العاصمة العراقية غصّ المطار بجموع المستقبلين من أنحاء البلاد، ولاسيّما العلماء وطلبتهم الّذين أضفوا على المطار بهاءً من العمائم البيض، وكان يوماً مشهوداً، أنشد فيه الناس طلع البدر علينا, وحملوا سيدنا النّبهان رضي الله عنه  من الزحمة إلى قاعة المطار، بينما أعدّ العراقيون موكباً وإذاعة ليسيروا به في شوارع بغداد قبل أن يصل رضي الله عنه المكان المهيَّأ لضيافته

لكنّ الرجل الّذي تأبى عبديته (الطنطنات) رفض أن يشيّع بموكب فركب سيارة قديمة متعبة للعميد المهندس تحسين عبد القادر رحمه الله تعالى فنحا بها جهةً تخفّى بها عن مستقبليه إلى أحد المساجد، وتفرّق الموكب، بينما كانت سيارة إذاعة يقودها الشيخ غازي السامرائي (احد اكابر علماء بغداد) وكنت معه في السيارة والمنادي يعلن بابواقها في شوارع المدينة ( هنيئاً لكم يا أهل بغداد لقـد قدم اليوم إلى العراق العارف بالله الشيخ محمّد بن أحمد النّبهان !.) وبعد ان تفرّق الجمع رجع إلى البيت الّذي دُعِيَ إليه في منطقة بغداد الجديدة عند الحاج أحمد مهاوش الكبيسي أخو الشيخ محمود مهاوش رحمهما الله تعالى.

وبقي في العاصمة العراقية سبعة أيام، وأقيمت بمقدمه احتفالات في كلية الشريعة وجمعية التربية الإسلامية وغيرها، فألقيت الخطب والأشعار التي ترحب وتعرّف الناس بمكانته رضي الله عنه  وكان اعظم تلك الأيام زيارة لسيدنا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه كاد الناس يفقدون عقولهم من شدّة ما جرى لهم من بهجة وهيام، حملوه فيها على الأعناق يهللون ويكبرون، وكانت ساعة عظيمة بالأذكار والصلوات .

وبعد صلاة الجمعة أقام رضي الله عنه حلقة ذكر إلى صلاة العصر، فطفح النور في المسجد بما لا يخفى على أحد!.. وحمله الناس على أكتافهم.. مشهد عجيب يثير الحماس ويلهب المشاعر وهم يهتفون بحرارة يحار فيها الواصفون: ( لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله..) وعامة من حملوه رضي الله عنه الثانية  من الّذين رأوه لأول مرة! إذ حاله وهيئته وقوّة تأثيره رضي الله عن في نفوسهم أخذت قلوبهم فعبروا عن حبهم وفرحهم بحمله على الاعناق الّذي جاء من غير إعداد مسبق..

حدثنا : منشده الخاص الاستاذ محي الدين احمد قال: لمّا زار سيدنا رضي الله عنه سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه صلّى ركعتين في الرواق الذي عن يمين الباب قبل حضرة الزيارة ، ولم يكن معه عند دخوله وسلامه على سيدنا عبد القادر الجيلاني الا انا وشخصان آخران ، فتحدث مع سيدنا عبد القادر بالعربية ثمّ بالانجليزية، ولكوني احسن الانجليزية فهمت ما دار بينهما من حديث ولكنه سرٌّ لا انطق به ابداً ، ثمّ انهى حديثه معه بالسرّيانية وهذه المسألة من اعجب ما رأيت في صحبتي إياه في هذه السفرة المباركة. وكما احتفلت بغداد فقد عاشت المدن التي مرّ بها ربيعاً محمّديّاً، وقضى أهلها أعياداً فريدة في الفلوجة والرمادي وهيت وكبيسة والخالدية وديالى بما يعجز عنه البيان .وكلّما دخل مدينة أو خرج زفّ إياباً وذهاباً من المساجد والبيوت والشوارع، فالخطب والاناشيد مرافقة لتنقّلاته رضي الله عنه وما وطئت قدماه أرضاً إلاّ وأعقبت غرساً صالحاً وخضاراً مباركاً لا تزال آثارها وستبقى إن شاء الله

  • وأمضى رضي الله عنه  أكثر أيام سفرته في مدينة الفلوجة قال رضي الله عنه  : ( أنا أحب الفلوجة، الفلوجة دار هجرتي) 

إذ لقي فيها حفاوة تجاوزت الوصف، أذكر أنه رضي الله عنه  حضر صلاة الجمعة في جامعها الكبير، فألقى الشيخ محمّد عبد الله الشامي خطبة الجمعة معرفا بسيدنا رضي الله عنه  ثمّ أقام رضي الله عنه  بعدها حلقة ذكر ثمّ عاد ثانية فصلى العصر فيه، ولما خرج رضي الله عنه  من المسجد إلى الساحة تحلق الناس حوله ولم يجدوا ما يعبرون عنه إلا الضجيج بالتصفيق!! وتنافس العراقيون الأخيار على إكرامه رضي الله عنه  في كل مدينة زارها، ومنها مدينة الفلوجة، فكان رضي الله عنه  يثني على كرمهم ومحبتهم له، ويخص في الفلوجة الحاج عبيد دريع عبد الله الكبيسي ويقول رضي الله عنه  : والنعمين من الحاج عبيد، الحاج عبيد مليح (مليح كثير مليح)، عنده مائة وقدّم لنا مائة، والحاج عبيد رحمه الله تعالى والد كل من الشيخين الكبيرين علامتي العراق الدكتور أحمد عبيد الكبيسي، والدكتور حمد عبيد الكبيسي رحمه الله تعالى .

وبعد أن أمضى تسعة وعشرين يوماً يومان منها في دولة الكويت رجع رضي الله عنه  يوم الاثنين 7/ذي القعدة/1388هـ الموافق 26/1/1969م بالطائرة، وجرى له توديع مهيب جداً في مطار بغداد يماثل ما استُقبِل به رضي الله عنه  .

بيعة عامة للمودّعين في المطار

وفي القاعة الكبيرة في مطار المثنى بقلب بغداد ألقى الشيخ هشام الألوسي شعرا فقال:

 

فـجر أطل على العراق ترامى      لـما تـلألأ فـي الملا وتسامى
يـا سيدي يا من ظهرت مجددا       عـهد الـنبيّ المصطفى المقداما
يـا أيـها الـفذ المعظَّم شأنه       لـذنا بـجاهك نُـشهد الأياما
إنّـا سـعدنا فـيكم ولقاكم       أحـيا القلوب وحقق الأحلاما
لـكنه مـا إن تـنفس بـالهنا         غـرس المحبة وازدهى وتنامى
عـدنا نودع من سقت ديمات        جـدب النفوس وبدد الأوهاما
مـا لـلعراق بـشيبه وشبابه      وبـأرضـه وسـمائه يـتهامى
أشجى الأحبة أن تململ ضعنكم        خـذنا بركبك لا تذرنا يتامى
لـما بـدا أن الـحبيب مودِّع      هـمنا بـحبه واسـتوينا قياما
يـا أيـها الـحب الولي لربه          من أدهش الأقطاب والأعلاما
إنـا عـقدنا بـيعة لـجنابكم       عـهدا ستبقى توجب الإلزاما

 

وعند قولي( واستوينا قياما) نهض رضي الله عنه فانتفض الجمع من حوله في مشهد عظيم، رفع يديه فيه رضي الله عنه  مبتهلا، فأعدت البيت الأخير مرتين، وامتثلت بجنبه وقلت: أدع الله لنا يا سيدي أن يرزقنا الصدق معك، فأجاب رضي الله عنه  وكرر مرتين: آمين، ولكن ما خليت وراءها شيئا, أتبعها بجلسة قصيرة سادها صمت وجلال، ثمّ انطلق رضي الله عنه  بعدها إلى الطائرة.