ضمان التطبيب والتعليم بالتشريع
الشيخ الشهيد عبد العزيز البدري

إن التطبيب والتعليم من الحقوق الطبيعية التي يتمتع الإنسان بها في الحياة ، وإنها من الخدمات العامة ، والمصالح المهمة ، التي يجب على الدولة أن توفرها لسائر رعاياها .
لذلك فقد قرر الإسلام أن الضامن لهما والمسؤول عنهما هي الدولة ، ويجب أن يحصل عليهما الإنسان ويتمتع بهما سائر أفراد الرعية ، لافرق بين مسلم وغير مسلم ، ولابين غني وفقير ، وأن يضمن بيت المال مصروفاتهما.
وذلك أن المقوقس ملك الروم أهدى لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام طبيباً فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيباً للمسلمين ، بل لجميع الرعية يعالجهم إذا مرضوا ، فكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جاءته الهدية ولم يتصرف بها أولم يستأثر بها بل جعلها للمسلمين دليل على أن هذه الهدية ليست خاصة له ، بل هي لعامة المسلمين أو للدولة ، أما إذا جاءته هدية شيء وأبقاها لنفسه كالبرد والبغلة التي أهداها ملك أيلة وتصرف بها وحده كانت هدية خاصة به وليست لعامة المسلمين .
وعليه فإن تصرف الرسول الكريم في مثل هذه الأشياء ، وتعيينه للجهة التي تؤول إليها وتنتفع بها هو الذي يعين أن هذه لمصالح عامة المسلمين أو هو ملك فردي ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن الهدايا التي قد تأتي لرئيس الدولة أو نائبه أو ممثله في أمر من الأمور تكون لبيت المال ولعامة المسلمين ، لذلك فقد أنكر الرسول الكريم أشد الإنكار على الرجل الذي حاول تملك الهدايا لنفسه التي أهديت له وهو عامل من عمال الدولة ونائب عنها في أخذ الزكاة فقد روى مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم ، فلما جاء بالمال حاسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الرجل : هذا لكم وهذا أهدي إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فهل جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً !! ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيباً بالناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : مابال الرجل نستعمله على العمل مما ولاّنا الله عليه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي ؟ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته ، والذي نفس محمد بيده لانستعمل رجلاً على العمل مماولاّنا الله فيغل منه شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه له رغاء ، أوبقرة لها خوار ، أوشاة تيعر ، ثم رفع يديه إلى السماء حتى رؤي بياض إبطيه ثم قال : الله هل بلغت اللهم فاشهد.
أما إن الدولة الإسلامية تتكفل بمعالجة المرضى وتهيئة الأماكن اللازمة فهذا أمر ظاهر ، فقد قام الرسول الكريم بذلك ، وهيأ مكاناً يتداوى فيه المرضى ، وأنفق عليهم من بيت المال ، فقد جاء نفر من عرينة وكانوا ثمانية قدموا عليه في المدينة معلنين إسلامهم لله ، وإيمانهم به عليه الصلاة والسلام ، فاستوبؤوا في المدينة وشكوا ألم الطحال ، فأمر بهم الرسول الكريم إلى لقاحة ، وكان سرح المسلمين _ الأنعام العائدة لبيت المال _ بذي جدر ناحية قباء قريباً من عير ترعى هناك ، فكانوا فيها حتى صحوا وسمنوا ، وكانوا استأذنوه أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ،فأذن لهم ،
وقد فعل سيدنا عمر بن الخطاب حينما مر على قوم مجذومين أن فرض لهم شيئاً من بيت المال .
وقد سار على هذا الخلفاء والولاة فخصص الوليد بن عبد الملك أعطيات للمجذومين ، وبنى ابن طولون في مسجده في مصر ميضأة وخزانة شراب بها الأدوية والأشربة ، كماعين طبيباً يعالج المرضى .
وعلى هذا فإن التطبيب وتوفير العلاج وتهيئة أماكنه من حق الرعية على الدولة .
أما التعليم فهو أيضاً من واجبات الدولة ، ومن المصالح العامة التي توفرها الدولة لجميع الرعية ، وتنفق على المعلمين من بيت المال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل في أسرى بدر أن الأسير يفك أسره إذا علّم عشرة من أبناء المدينة ، فداءً لفك أسره ، ومن المعلوم أن بدل الفداء هو ملك لبيت المال كالمال الذي أخذه من الأسرى الآخرين في نفس المعركة وضمه إلى بيت المال ، فيكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جعل التعليم مقابل الفداء ، ومعناه حقيقة أنه عليه الصلاة والسلام دفع للمعلمين أجرة من بيت المال .
وقد حدث الدمشقي عن الوضية بن عطاء قال : كان في المدينة ثلاثة معلمين يعلمون الصبيان وكان عمر بن الخطاب يرزق كل واحد منهم خمسة عشر في كل شهر .
والتعليم إلزامي فعلي الدولة أن تهيئ وسائله وأماكنه لقوله عليه الصلاة والسلام : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وإن حمل الدعوة الإسلامية فرض على المسلمين لقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك الحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) النحل 125 وقوله عليه الصلاة والسلام : بلغوا عني ولو آية ) وهل تكون الدعوة والتبليغ بدون علم وتعليم .
الأمر الذي يوضح هذه الحقيقة الإمام ابن حزم في كتابه الإحكام بعد أن حدد نصاباً من التعليم لايتجاوز عنه لتصح من الناس عباداتهم ومعاملاتهم فقد جعل الإمام _ رئيس الدولة _ ملزماً بتوفير وسائل هذا القدر من التعليم إلى أن يقول : وفرض على الإمام أن يأخذ بذلك ويرتب أقواماً لتعليم الناس .
هذا فيما يلزم المسلم في شؤون حياته الخاصة ، أماغيره فهي فرض كفاية على المسلمين ، لايسقط عنهم إلا إذا قام به البعض الذي تحصل به الكفاية ، وذلك مثل الطب والهندسة والصناعات والكهرباء وغيره ، سيما وأنها من المعارف التي تنفع عامة المسلمين ومما يحتاجون إليها في حياتهم .
وبهذا يتبين أن الإسلام ضمن لكل فرد حاجاته الأساسية من مأكل ومسكن وملبس وسعلا لتوفير الزواج ومايركب لقضاء مصالحه البعيدة كما ضمن التطبيب والتعليم وجعل كل ذلك من واجبات الدولة وجزء من عنايتها لرعاياها ، وذلك بالتشريع الذي تنفذه الدولة