بسم الله الرحمن الرحيم
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان
الشيخ عبد الهادي بدلة
الشهر الوحيد الذي ذُكر باسمه في كتاب الله المجيد هو شهر رمـضــــــان .
وذلك من أجل القرآن الذي نزل في الليلة المباركة ؛ فأصبحت هذه الليلة بالقرآن الكريم خيراً من ألف شهر ، وصار رمضان من أجل القرآن الكريم سيد الشهور ، فُتّحت فيه أبواب الجنان ، وغُلّقت أبواب النيران ، وتجلى الله بالمغفرة على جميع أهل الإيمان .
وفي الشهر الفضيل تنزّل الأمين جبريل عليه السلام على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فجعل يدارسه القرآن ، وأفضل العبادة هي تلاوة القرآن .
وكانت عبادة الصيام في شهر القرآن لتظهر عبودية المخلوق بالصيام ، وتتجلى ربوبية الخالق بالقرآن .
فكيف لا يشتدّ حرص المؤمنين بعد هذا على تلاوة القرآن في شهر القرآن ..
ثم كيف لا يعشقون هذا القرآن ؛ وهو الهدى لهم والميزان ، به يميّزون بين الحق والضلال ، وبين الكفر والإيمان ؛ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
وهذا القرآن العظيم ، بما فيه من الإرشادات التعاليم ، هدىً للناس –كلّ الناس– يرسم المعالم ، ويوضّح الطريق ، ويعطي البينات ، ويرسي الفرقان . وهــو بشكلٍ خاص هدىً وشفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين المتقين ؛ {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}.
وإن تعجب فاعجب معي أشدّ العجب ؛ لأُناسٍ ضيّقوا الوسيع ، وحاصروا البيان البديع ، وهصروا أجنحة الكلمة القرآنية عن التحليق ، فتفلسفوا بما لا يعجب أولي النهى ؛ حبسوا ( الهدى ) في معنىً بعينه ، واستكثروا أن يكون الهدى شاملاً لكل الأشكال والألوان ؛ ظانّين - والظن لا يغني من الحق شيئاً - أنهم بذلك يدفعون عن القرآن ، فقالوا إن القرآن ليس كتابَ علوم ولم يأتِ لتلك الفهوم ، إنما هو كتابُ هدايةٍ على العموم .
وحسبوا أن الهدى يُسعفهم فيما جنحوا إليه واجترحوا ، وغاب عنهم الهدى في لفظ الهدى ، فجعلوه باباً واحداً ليس غير . وبيـان القرآن واضحٌ في شموله لجميع ألوان الهدى ؛ لاسيما وقد اقترن الهدى بالناس ، فشمل جميع الأشكال والأشياء والأجناس .
ولله درُّ السلف ما كان أشدّ فطانتهم ، وأبعد نظرهم ، حيث فَقِهوا أن في القرآن علمَ الأولين والآخرين ، وآمنوا أن القرآن نزل تبياناً لكلّ شـيء و{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، فحملهم الفهم السليم على البحث القويم ، فأتحفوا الأمة بالجواهر ، وأزالوا حيرة كلّ حائر ، ولم يجترئوا على حبس الكلام المبين ؛ في حدود فهم بعض الفاهمين .
{وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}: التمييز والتركيز لا يتأتى ألبتّة بغير الكتاب العزيز ، فهو دلالاتٌ في كل المجالات ، وإرشاداتٌ لجميع الحالات ، وإضاءاتٌ تسلم معها جميع الحركات والسكنات .
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: إن تعاليم الدين تنهض - كما لا يخفى على العاقلين - على أساس الشهود واليقين ، وهي أيضاً ليست عنتاً ولا إرهاقاً للمؤمنين ، وليست عباداتٍ أو مطلوباتٍ لا يستطيعها البشر ، {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: فقـد أُنزل القرآن، وفُرض الصيام ، ليهذب لا ليعذب ، وليُرشد لا ليشدّد ، وليجمّع لا ليبدد ، فليس من البرّ الصيام في السفر ، وإن هذا الدين يسرٌ ، وإكمال العُدّة ليس بالعسر .
أقول : لو لم يكن في الكتاب الحكيم سوى هذا النصّ العظيم {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، لكان ذلك كافياً في أن يبعث على الشكر والتكبير ، وحافزاً في أن يعشق الناس هذا الإلـه ، ويخضعوا له بالقلوب والجباه ، ويحرصوا على أن يقود الدين وحده هذه الحياة .
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}: بالقرآن ، وجعلكم لا تخضعون لسواه ، فهو وحده سبحانه وتعالى الكبير الكبير ، الذي يستحقّ التعظيم والتكبير .
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: على نعمة القرآن والصيام ، فيكون الشكر من ثمرات القرآن والصيام ، ومن ثَمّ ينعكس على العلاقات بينكم وبين جميع الأنام ، وكلّ ذلك بفضل القرآن الذي أنزل هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان .
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} .